الجنوب المغادر والغرب المغدور: من الجغرافيا إلى الجراحة الوجدانية

دكتور الوليد آدم مادبو

كثيرًا ما نظن أن الانفصال لحظة جغرافية، بينما هو في جوهره جرح في الذاكرة. لم يكن الجنوب مجرد رقعة افترقنا عنها في الخرائط، بل كان مرآة خسرنا رؤيتنا فيها. فمذ ارتحل، أو أُرغم على الرحيل، خفت فينا شيء من الدفء، من الأنس، من معنى أن نكون سودانيين لا تقسمنا الظلال.

إن العلاقة بين غرب السودان وجنوبه ليست قصة تحالف سياسي أو مصالحة طارئة، بل نداء باطني طويل، حنين أرض إلى أرض، وانجذاب وجداني بين من تقاسما الوجع وتفرقا في اللغة. هذا الجنوب الذي غفر بصمت النبلاء، ولم ينتظر اعترافنا بما ارتكبناه في حقه. بل واحتفى بنا حين عدنا إليه مثقلين بالخسارة، هو ذاته الجنوب الذي نحتاج أن نعود إليه لا كأبناء غرب نادم، بل كشركاء في تربة الحلم.

أدرك الجنوب أننا، نحن أبناء الغرب، كنّا في لحظة ما اليد التي بطشت، ولكننا كنا كذلك الضحية. ضحية نخب مركزية متعالية أرادت استخدامنا كحاجز بشري بين “المركز” و”الهامش” الأقصى، فوجدنا أنفسنا مهشمين على ضفتي النار. نحن من نحتاج الاعتذار، لا ليصفح الجنوب، بل لنتحرر نحن من وزرنا، ومن تاريخ زائف وضعنا على الهامش رغم ادعائنا أننا نحمي المركز ونحمل في وجداننا أنشودتيّ القومية والمؤسسية.

خرج الجنوب من جحيم الحرب لا مهزوماً بل أكثر صلابة وعزة، وإن تضعضعت أحواله السياسيّة والاقتصادية. أما نحن، نحن الذين ظننا أننا تخلصنا من عبء كبير، خرجنا من ذات الجحيم ونحن نحمل في ذواتنا عقداً نفسية وإعاقات ذهنية كانت الحرب الأهلية إحدى أقسى تجلياتها. لم نربح شيئًا من استعلائنا، بل خسرنا مرآتنا. في روايته اللافتة “فشودة”، قدم أحمد حسب الله الحاج — الروائي الكبير — نصًا شديد الجرأة، لا عن الجنوب وحده، بل عن صمتنا الممتد. عن تواطئنا الذي لم يكن دائمًا رغبة في القمع، بل غالبًا خوفًا من التكلم في المسكوت عنه.

أبناء غرب السودان، أبناء البقارة خاصة على امتداد “خط التمازج” الذي أطلق عليه زورا وبهتانا “خط التماس”، لم يكونوا غرباء عن الجنوب. كانت أغانيه تسكن في وجدانهم، وكانت لغاته تُسمع في أسواقهم، وكانت دماء النسب والملح والماء تربطهم. لكن، في لحظة زيف تاريخية، توهّم بعضهم أن التحالف مع نخب المركز المستعربة سينقذهم من التهميش ويحقق لهم التفوق المنشود. فوجدوا أنفسهم في الهوة ذاتها، بل أعمق، لأنهم فقدوا الجنوب، ولم يدخلوا أبدًا إلى قلب الشمال.

واليوم، وقد تحرروا من وهم الإندماج في السلطة المركزية، باتوا أقرب للجنوب وجدانيًا. الجنوب لم يغلق بابه، بل احتفى بذاك الانعتاق، وفتح دروبًا جديدة للقاء لا تُبنى على الذنب، بل على الندية والاعتراف. إذا كان الماضي مبنيًا على الهيمنة، فالمستقبل لا يبنى إلا بالشراكة التي ستحول بؤر التوتر إلى واحات من السكينة والإخاء، وتغدو أرضًا خصبةً للإنتاج. الجنوب اليوم ليس مشروعًا إنسانيًا فقط، بل مشروع اقتصادي-تنموي متكامل، لا يتحقق إلا إذا فهم الغرب السوداني دوره في بناء ذلك العمق الوجداني والتجاري والسياسي مع الجنوب.

إن هذا التلاقي الروحي هو نواة مشروع تنموي حقيقي، لا يُبنى فقط على الطرق والسدود، بل على الشراكة في الألم والأمل، في الأرض والذاكرة. ولهذا، فإن أي نخبة تُنتدب لتأسيس السودان الجديد لا بد أن تفكر مع إخوتهم من جنوب السودان في إقامة نظام ثقافي كونفدرالي يعيد الجنوب إلى المدار الكوشي دون إكراه، ويعيد السودان إلى هويته الإفريقية دون مكابرة.

كل ما سبق لا يمكن أن يتحقق تحت نظام شمولي، ولا في ظل دولة تضع الدين غطاءً للعنف. المطلوب نظام فدرالي ديمقراطي يحتكم إلى دستور علماني، لا يعادي الدين، ولكن يحميه من التوظيف السياسي. دستور يحترم التعدد دون خوف من التنوع، ويضمن الحق في الاختلاف دون أن يُجرَّم المختلف.

الأنظمة الإسلاموية، وعلى رأسها النظام الكيزاني، لم تكتفِ بتخريب السودان، بل صارت خطرًا على الجوار الإفريقي كله. باسم الدين، وباسم العنصرية، أشعلت نيران الكراهية، وغرست بذور الشك في العلاقة بين الشعوب. نقلت تلكم الجماعة عقدها كافة إلى خطاب سياسي قمعي، شوه حتى الإيمان نفسه، وصار الفرد فيه مشلولاً لا يبدع، لأنه غير متسق مع ذاته، لا يثق بجسده، ولا يصالح لونه.

نعم، لا يمكن للإنسان أن يبدع إلا إذا تصالح مع نفسه واتسق مع ذاته، ولا يمكن لوطن أن يُبنى، إلا إذا سبقه صلح داخلي بين ضفتيه: الجنوب الذي غادر، والغرب الذي غُدِر.

حين نستعيد السودان من خاطفيه، ونرده إلى فضائه الزنجي والإفريقي، ستعود إلينا القدرة على رؤية الجنوب لا كآخر، بل كامتداد لذواتنا. سنبني حينها الجسور لا بين الفاشر وجوبا فقط، بل بين وعينا وضميرنا. وسنرى أن الجنوب الذي “استقل” جغرافيًا، ما زال مقيمًا فينا، في اللغة، في الوجدان، وفي الحلم.

ختاماً، ونحن نستدعي الجنوب من ذاكرة الجرح، ألا نغفل ما تراكم من شروخ في جسد الغرب نفسه. فالغرب ليس مجرد تحالف بين البقارة والجمالة، بل كيان متعدّد تنوء داخله مظالم “الزرقة”، التي لا يكفي تجاوزها بالرموز الجامعة وحدها. ومن هنا تبرز ضرورة تحويل الفاشر من مدينة ذات دلالة جهوية إلى إطار دارفوري جامع، يتّسع لكافة مكوناته، بأطيافها المتنافرة والمتصالحة.

كما أن المصالحة مع الجنوب لن تكتمل دون أن يتصالح السودان مع نفسه: مع دارفوره، وشرقه، ووسطه، وشماله، والنيل الأزرق، لا على مستوى التعايش السطحي، بل عبر جراحة فكرية ونفسية عميقة تمسّ عقل الوطن وروحه. فالمبتغى ليس بناء تحالف بين أطرافٍ متنازعة، بل استيلاد وطنٍ جديد من رماد وطنٍ قديم، وطنٍ نريده لا كما كان، بل كما ينبغي أن يكون.

 

‏May 12, 2025

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.