دار جدلٌ طويل حول ما يُعرف بـدولة “56”، أي السودان ما بعد الاستقلال، وتعددت المقاربات بشأن الرغبة الكبيرة في تفكيك هذا الكيان. البعض يرى ذلك تفكيكًا واعيًا من قِبل من يدركون حجم الاختلال البنيوي الذي رافق بناء الدولة السودانية الحديثة، فيما يرى آخرون أن هناك من انخرط في هذا الخطاب دون وعي، مدفوعين بشعارات لا يدركون خلفياتها أو مآلاتها.
السؤال: هل هناك فعلًا ما يمكن تسميته بـدولة “56”؟ وهل هناك ضرورة حقيقية لإحداث تغيير شامل في بنية الدولة السودانية، أم أن هذا مجرد توهم بلا سند تاريخي أو واقعي؟
الإجابة: نعم، هناك دولة 56، بكل ما تحمله من اختلالات تاريخية وبنيوية.
إنها الدولة المركزية التي ورثت السلطة من المستعمر بعد الاستقلال عام 1956، لكنها أبقت على جوهر بنيته الإدارية والسياسية، بل وعمّقتها في أحيان كثيرة.
هذه الدولة: قادت الحروب الأهلية منذ ما قبل الاستقلال، بدءًا من تمرد كتيبة توريت عام 1955، وحتى حرب 15 أبريل 2023 الجارية اليوم.
تجاهلت الاختلالات البنيوية العميقة في تركيبتها، وبدلًا من إصلاحها، سعت لإفقار الأطراف والمناطق المهمشة، وعملت على اللعب بتناقضاتها لضمان بقائها.
تأسست على تفاهمات مصالح بين نخب سياسية محددة، استفادت من الجهل وضعف التعليم وسط غالبية السكان، لترسيخ نفوذها.
خدعت الشعوب السودانية بخطاب ظاهري تعددي، بينما كانت في جوهرها تحافظ على بنية سلطوية واحدة، مستنسخة من المستعمر، متخفية خلف أقنعة حزبية مختلفة لكنها متفقة ضمنيًا على الحفاظ على شكل الدولة القديم.
أعلت من قدسية القوات المسلحة، وجعلت منها الحزب الحاكم الفعلي الذي يُحتكم إليه عند أي خلاف سياسي. ولهذا، نادرًا ما ينتقد أي حزب سياسي المؤسسة العسكرية أو يناقش دورها الحقيقي وحدودها، بل تُقدَّم على أنها وصية على الدولة والشعب.
تبنّت طوال تاريخها فكرة الميليشيات كأداة لقمع الأصوات المطالِبة بالتغيير أو بالشراكة العادلة في السلطة والثروة.
أجهضت كل محاولات التغيير السلمي التي سعت لإعادة صياغة الدولة ومؤسساتها، مفضّلة التلاعب والتسويف على الحوار الحقيقي والإصلاح الجاد.
هذه، ببساطة، هي ملامح دولة “1956” التي ما تزال تقاوم التغيير وتحاول البقاء عبر أدواتها القديمة، رغم كل المتغيرات.
وعندما اندلعت ثورة ديسمبر 2018، كانت فرصة تاريخية حقيقية لكسر هذا النمط، لكن القوى المستفيدة من بقاء الدولة المركزية القديمة عملت على الالتفاف حول المطالب، وحرفت مسار الثورة، حتى دفعت البلاد مجددًا إلى أتون الحرب.
ورغم محاولات التعطيل، فإن التغيير قادم لا محالة، لأن وعي الشعوب أكبر من أن يُحتوى، وزمن دولة “56” قد شارف على النهاية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.