في الوقت الذي يُحتفى فيه عالميًا بثورة الذكاء الاصطناعي بوصفها أعظم منجزات العصر الرقمي، يطفو إلى السطح سؤال مقلق: هل يُسهم هذا التقدم التقني في تراجع قدرات الإنسان العقلية وتكريس نوع جديد من الأمية؟
لقد نشأ الذكاء الاصطناعي من رحم الحاجة لتسهيل المهام المعقدة، وتسريع الوصول إلى المعلومات، وتحسين الإنتاجية. إلا أن الوجه الآخر لهذا التقدم يُشير إلى ظواهر سلبية تتمثل في الاعتماد المفرط على التقنية، وتراجع مهارات التفكير النقدي، والكتابة، والقراءة التحليلية، بل وحتى الفهم البسيط للنصوص.
إن الذكاء الاصطناعي الذي يُنتج نصوصًا ويجيب على الأسئلة ويوجه سلوك الأفراد، بدأ يتحول تدريجيًا من “مساعد للعقل” إلى “بديل عنه”. فأصبح الإنسان يطلب من الآلة أن تفكر عنه، وتكتب له، وتُحلّل نيابةً عنه، حتى في أبسط المهام اليومية.واذا ما تدبرنا القرآن الكريم جاء بما لا يدع مجال للشك ان العقل البشري في طليعة خلق الله وسنبقي سنة التفكير والتدبير والتحليل باقية الى يوم القيامة كما جاء في قوله تعالى:﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾(سورة ص، الآية 29).
في هذا النداء الرباني، دعوة واضحة إلى إعمال العقل، وتدبّر المعنى، وربط النص بالواقع. فالقرآن لا يخاطب الغافلين، بل يخاطب أولي الألباب؛ الذين يقرأون بوعي، ويتفكرون بعمق، ويزنون الأمور بعقول ترشدها البصيرة لا الهوى.
وفي زمن تهيمن فيه الآلة على الفكر، ويغفو فيه العقل أمام سطوة الذكاء الاصطناعي، تبرز الحاجة الملحة إلى استعادة دور العقل، وتحصينه من التواكل المعرفي، والكسل الذهني.
نحن اليوم أمام ظاهرة ما يمكن تسميته بـ*“الأمية الحديثة”*؛ فالأمية لم تعد تعني عدم القدرة على القراءة والكتابة، بل أصبحت تشير إلى العجز عن التفكير النقدي، وعدم القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، والاعتماد الكامل على الخوارزميات لفهم الواقع والتعامل معه وكأننا امام واقعة القصد منها تعطيل وتسكين العقل البشري المدبر.
المدارس والجامعات، التي من المفترض أن تكون حواضن للتفكير الحر والتجريب، باتت تسمح باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في أداء المهام التعليمية، ما يُضعف دور المعلم والمتعلم على حد سواء، ويُحول العملية التعليمية إلى نشاط آلي خالٍ من المعنى.
كما أن الذكاء الاصطناعي لم يقتصر تأثيره السلبي على التعليم والتفكير الفردي فقط، بل امتد ليُهدد أحد أعمدة التقدم البشري: البحث العلمي والابتكار.
فمع تزايد الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي لإنتاج الأوراق البحثية، وصياغة الأفكار، وتوليد الفرضيات، أصبح كثير من الباحثين يُعيدون إنتاج معارف مألوفة، دون جهد نقدي أو إبداع أصيل.
هذا النمط من “الابتكار الآلي” قد يُنتج كمًا كبيرًا من الأبحاث، لكنه يفتقر إلى العمق، ويُكرّس حالة من الاجترار المعرفي بدلًا من التجديد الفكري والاجتهاد المعرفي. وهنا تندثر الفروق الفردية بين الافراد والشعوب، فيصير الغير متعلم يناهض المتعلم ، فقط لانه يمتلك تلفون ايفون بروماكس وشبكة انترنت قوية.
إن البحث العلمي الحقيقي يتطلب معاناة فكرية، وتجريبًا، وتساؤلًا، وصبرًا طويلًا على الفشل، وهي خصائص لا توفرها الآلة، ولا يستفيد منها من يركن إليها كليًا.
وبذلك، يصبح الذكاء الاصطناعي خطرًا مزدوجًا: فهو يُغري الباحث بالسهولة، ويُبعده في ذات الوقت عن جوهر العملية البحثية القائمة على النقد، والتحقق، والإبداع الحر.
وإذا لم ننتبه إلى هذا التحول الخطير، فإننا سنشهد قريبًا أجيالًا تحفظ ما تُلقنه الآلة، لكنها عاجزة عن ابتكار فكرة، أو تحليل موقف، أو كتابة فقرة دون الاستعانة ببرنامج أو تطبيق.
ويخشى الكثيرون من ان تصبح الجامعات والمدارس في ظل هذا المناخ ليست فقط بيئات للتعلم والتدريب وانتاج البحث العلمي، وانما الخوف ان تتحول الى ارشيف ومواقع لتخزين الكتب خاوية من التلاميذ والطلاب.
ليس المطلوب وقف الذكاء الاصطناعي، بل المطلوب هو إدارته بحكمة، وتحديد مجالات استخدامه، وتحصين الإنسان ضد التبعية الكاملة له. فالعقل البشري لا يزال يتفوق على الآلة في الحس الإنساني، والقدرة على الإبداع، والمرونة الأخلاقية.
إن المعركة الحقيقية ليست بين الإنسان والآلة، بل بين الإنسان وقدرته على أن يبقى “إنسانًا” في ظل هيمنة “الآلة”.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.