ظل الجيش السوداني منذ العام 1955م يستخدم سياسة الأرض المحروقة في حروبه ضد الشعوب السودانية، وسياسة الأرض المحروقة هي استراتيجية عسكرية تقوم على تدمير كل ما يمكن أن يفيد العدو “وهنا كلمة العدو تشمل عند الجيش حتى المواطنين الذين يقيمون في مناطق الحروب” أثناء الحرب، مثل (القرى، المحاصيل، مصادر المياه، والممتلكات المدنية) وظل الجيش السوداني يستخدم هذه الإستراتيجية منذ أول تمرد شهدته البلاد في مدينة “توريت” في العام 1955م ومثل ذلك التمرد الشرارة الأولى للحرب الأهلية السودانية الأولى التي إمتدت منذ العام ( 1955 وحتى 1972) وإستمر التمرد لفترة (17) عام، وفقد الجنوبيين في هذه الحرب نحو نصف مليون مواطن، وتشير بعض التقارير إلى أن عدد الضحايا من المدنيين الجنوبيين بلغ أكثر من “500” ألف مواطن.
وبعد مرور “10” سنوات تقريباً على إتفاقية أديس أبابا، إندلعت الحرب الأهلية الثانية في جنوب السودان، بعد أن أعلنت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، بقيادة الدكتور “جون قرنق ديمبيور” في 16- مايو – 1983م عن تأسيسها وإنطلاق الرصاصة الأولى لثورتها المجيدة، وإستمرت الحركة في نضالها لفترة “22” عام، وراح ضحية الحرب الأهلية الثانية نحو “2” مليون مواطن جنوبي، وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد الضحايا بلغ حوالي مليون و”900″ ألف مواطن، وبعد تاريخ طويل من النضال وقعت الحركة الشعبية مع نظام الإنقاذ المباد على إتفاقية السلام الشامل “نيفاشا” في عام 2005م إلا أن الإتفاقية لم تعالج أزمة جنوب السودان، وأدت إلى إنفصال الجنوب في عام 2011م.
وبعد أن أسس القائد الملهم الدكتور “جون قرنق ديمبيور” الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، خرج عن الإطار التقليدي الضيق، وإنفتح بحركته الجديدة إلى رحاب الوطن الفسيح مبشراً بمشروع السودان الجديد، وأسس قطاعين للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في المنطقتين ” جبال النوبة، والنيل الأزرق” منذ وقت مبكر، وشهدت المنطقتين طوال الحرب الأهلية الثانية التي إمتدت لأكثر من “22” عام إنتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، وقتل في منطقة جبال النوبة فقط أكثر من “500” ألف مواطن، فيما قتل في النيل الأزرق الالاف من المواطنين العزل، فيما ظلت الحرب والجوع والفقر تفتك بشعب شرق السودان لفترة طويلة، ومات الالاف من أبناء الشرق بسبب الحرب التي شهدها الإقليم في السنوات الماضية.
وتسبب التهميش الممنهج وسياسات الحكومات المركزية التي تعاقبت على حكم السودان، في إندلاع التمرد بإقليم دارفور في عام 2003م والذي قادته حركتي تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، والعدل والمساواة بقيادة الدكتور الراحل خليل إبراهيم، وأدّى الصراع الدموي في الإقليم إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم، ومقتل أكثر من “300” ألف مواطن وتشريد أكثر من “2” مليون نازح موزعين على أكثر من “60” معسكر للنازحين بدارفور، وأكثر “1” مليون لاجئ في شرق تشاد وبعض البلدان الأخرى، وتم حرق أكثر من “4” ألف قرية في إقليم دارفور، وبسبب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي والابادة الجماعية التي إرتكبها نظام الانقاد والجيش السوداني بحق شعب دارفور إتهمت المحكمة الجانئية الدولية القائد الأعلى للجيش الرئيس المخلوع عمر البشير وعدد من رموز نظام الإنقاذ بإرتكاب الجرائم المذكورة سابقاً في دارفور وطالبتهم بالمثول أمامها، وإبان أزمة دارفور كان الرئيس المخلوع عمر البشير إعترف بأن عدد الضحايا في حرب دارفور “10” ألف فقط، فيما لازالت الحرب مستمرة في دارفور ولفترة “22” عام منذ عام 2003م وحتى الان.
وبدأ النزاع في إقليم دارفور في أوائل عام 2003، عندما حملت حركتان مسلحتان هما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة السلاح ضد الحكومة السودانية، متهمتين إياها بتهميش الإقليم سياسيًا واقتصاديًا، ولكن في المقابل ردّت الحكومة السودانية بحملة عسكرية واسعة النطاق، وعملت على تقسيم مجتمع دارفور إلى “زرقة وعرب” واستعانت ببعض أبناء دارفور المنتمين لحزب المؤتمر الوطني في تأسيس ميليشيات محلية، لاتمثل جميع القبائل العربية في دارفور، عرفت باسم “الجنجويد” لمحاربة المتمردين والسيطرة على القرى والمناطق الريفية التي كانت تعدّ بيئة حاضنة لهم بحسب تفكير حكومة الإنقاذ في ذلك الوقت، ومنذ بداية الحرب في إقليم دارفور، إتبع الجيش السوداني بقيادة المشير عمر البشير سياسة الأرض المحروقة في إقليم دارفور كوسيلة لمعاقبة السكان المحليين الذين اعتُبروا داعمين للتمرد، وكانت تهدف هذه الإستراتيجية إلى إفراغ مناطق كاملة من سكانها وإضعاف القاعدة الاجتماعية والسياسية للحركات المسلحة المتمردة على الدولة المركزية في الخرطوم.
وبحسب تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان مثل “هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية” خلال عامي (2003 و2004) نفذ الجيش السوداني والميليشيات المتحالفة معه وقتها عمليات ممنهجة تضمنت: (قصف جوي مكثف من طائرات أنتونوف ومروحيات هجومية استهدف قرى مأهولة، وحرق القرى بالكامل بعد نهبها، بما في ذلك تدمير المنازل والمزارع ومخازن الحبوب، وقتل المدنيين، وارتكاب انتهاكات جسيمة مثل الاغتصاب الجماعي والعنف الجنسي ضد النساء، وتهجير قسري لمئات الآلاف من السكان إلى معسكرات النزوح داخل السودان أو إلى دولة تشاد، وتلويث الآبار ومصادر المياه لمنع عودة السكان إلى قراهم، وقد أُحرقت مئات القرى في ولايات شمال وجنوب وغرب ووسط دارفور، من أبرزها قرى في مناطق “كتم والجنينة وزالنجي والطينة” وتفيد بعض التقارير إلى أن عدد القرى التي حرقت تجاوز (4) ألف قرية.
وفي فترة وجيزة تدهورت الأوضاع في إقليم دارفور وإرتفعت الخسائر البشرية بشكل كبير، وقُدّر عدد القتلى بين عامي (2003 و2004) بما يتراوح بين (180,000 إلى 300,000) شخص، نتيجة العنف والمجاعة والأمراض، وأفرزت الحرب نزوح واسع النطاق، ونزح أكثر من (2.5) مليون نازح داخل السودان، وحوالي (200) ألف لاجئ إلى تشاد، وأحدثت الحرب دمار شامل للبنية التحتية الريفية والزراعة المحلية، وأدت إلى تمزق النسيج الاجتماعي بين المجموعات العرقية في دارفور، ووصفت الأمم المتحدة وبعض الحكومات الغربية ما جرى في إقليم دارفور بأنه تطهير عرقي، وربما جرائم ضد الإنسانية، وفي عام 2005، أحال مجلس الأمن الدولي ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC). ولاحقًا، أصدرت المحكمة مذكرات توقيف بحق مسؤولين سودانيين كبار، من بينهم القائد العام للجيش السوداني الرئيس المخلوع عمر حسن البشير، بتهم جرائم حرب وإبادة جماعية.
ويبدو واضحاً أن سياسة الأرض المحروقة التي إستخدمها الجيش السوداني في إقليم دارفور كانت أداة قمع فعّالة لكنها مدمّرة، أستُخدمت لتركيع المعارضة المسلحة على حساب المدنيين، وخلّفت هذه الإستراتيجية آثارًا إنسانية واجتماعية عميقة ما زالت المنطقة تعاني منها حتى اليوم، بما في ذلك الانقسامات القبلية، والنزوح الطويل الأمد، وانهيار الاقتصاد المحلي، وتمثل سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها الجيش السوداني في إقليم دارفور، وقبلها في جنوب السودان وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، تمثل إحدى أبشع صفحات الصراع السوداني المعاصر، حيث استخدمت الدولة وجيشها العنف الممنهج ضد مواطنيها لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية قصيرة الأمد، لكنها أدت إلى كوارث إنسانية مستمرة، وأثّرت على صورة السودان في المجتمع الدولي حتى الان، وحتماً ستكون لها أثار لاحقة.
ويؤكد الواقع التاريخي أن حروب السودان، التي تجاوز عمرها سبعة عقود من الزمان لم تبدأ في أبريل 2023م بل بدأت في “توريت” في العام 1955م بسبب التمرد الذي إستمر لفترة “17” عام، وقُتل فيه أكثر من “500” الف مواطن جنوبي، وبعدها بدأ عنف الدولة المركزية وجيشها ضد الشعوب السودانية، وتواصلت الحرب الأهلية الثانية في الجنوب، والتي بسببها قُتل أكثر من “2” مليون مواطن جنوبي، فضلا عن مقتل أكثر من “500” الف مواطن بجبال النوبة، ومقتل الالاف بالنيل الأزرق، وإمتدت الحرب لتشمل شرق السودان، وبعدها إنتقلت إلى إقليم دارفور الذي أرتكب فيه الجيش السوداني جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية في دارفور، وقتل الجيش السوداني في إقليم دارفور فقط أكثر من “300” ألف مواطن وحرق أكثر من “4” ألف قرية، وتشير التقديرات إلى أن عمر الدولة الوطنية في السودان ناهز (70) عاما، شهدت خلالها البلاد إستقراراً لفترة (11) عاماً فقط، فيما ظل الجيش السوداني لفترة (59) عاما يحارب الشعوب السودانية، وظل طوال هذه الفترة وفي جميع هذه الحروب يستخدم سياسة الأرض المحروقة، ولكن ربما يمثل سقوط مدينة “الفاشر” العاصمة التاريخية لإقليم دارفور بداية لنهاية سياسة الأرض المحروقة في دارفور وجميع أقاليم السودان الأخرى، وبداية حقيقية إلى تأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.