الفاشر… اقتصاديات المتاجرة بالمأساة في حرب السودان

عمار نجم الدين

لم يكن ما سُمّي بـ«صمود الفاشر» بطولة بالمعنى الإنساني الذي يليق بمدينة تحاصرها المجاعة والنار، بل إعلانًا تجاريًا بلغة إنسانية منمقة. بينما كانت المدينة تختنق تحت الحصار، والجيش والمثقفون ينادون ضد الحوار أو التوصل لاتفاق إنساني، كانوا يحتفلون بإسقاط الأسلحة بدل أن يسقطوا طعامًا على المدينة المحاصرة. حكومة بورتسودان ومثقفوها، يمينًا ويسارًا، رفضوا التفاوض، لأن المقصود لم يكن النصر العسكري، بل المتاجرة بدماء الضحايا.

صيغت حول الفاشر منشورات كأنها ترويجٌ لرمزٍ يُباع ويُشترى في سوق الخطاب. لم تُطالب تلك الكتابات بفتح ممرات آمنة لإجلاء المدنيين أو إيصال المساعدات، بل اكتفت بتسويق الحزن ونزع الإنسان من سياقه الإنساني الفعلي إلى مادة إعلامية تُستغل سياسيًا. لم تكن الحرب في السودان مجرد اشتباكٍ مسلح، بل مرآة تعكس عمق الأزمة التاريخية لبنية الدولة المركزية التي بُنيت على التراتب العرقي والجغرافي، وجعلت من دماء الهامش وقودًا لبقائها. في الخرطوم ارتُكبت فظائع ضد المدنيين وضد عناصرٍ من الدعم السريع ومن أبناء دارفور، حيث قُتل الناس على أساس الملامح، ووُصفوا بـ«المتعاونين» و«الوجوه الغريبة». تلك المشاهد — من قطع الرؤوس والاستهزاء بالجثث وبقر بطون الأسرى — لم تكن تجاوزات عشوائية، بل دليلاً على عنصريةٍ مؤسسية متجذّرة في ممارسة السلطة. ورغم ذلك، امتلأت الشاشات ببكاءٍ انتقائي: تعاطفٌ علني حين صدر الخطر إلى أحياءٍ محددة، وصمتٌ حين استُهدف الآخرون. لم نسمع أصواتهم تطالب بوقف النار أو فتح الممرات الإنسانية للهامش، لأن الصمت هنا لم يكن براءة، بل تحيّزًا أخلاقيًا.

لم يكن سقوط الفاشر وليد الصدفة، بل جزءًا من خطة ممنهجة لإضعاف دارفور وكسر شوكة حركاتها المسلحة. رفض الجيش السوداني وقيادة المركز أي تفاوضٍ لكسر الحصار، رغم تحذيرات الأمم المتحدة وجامعة ييل الأمريكية من سقوط وشيك للمدينة. أراد المركز أن تتحوّل الفاشر إلى ساحة للتجارة الإنسانية، وأن يكون الثمن دماء الضحايا. حين اشتدت أهوال الحصار، كان الخطاب المركزي يروّج لـ«صمود» المدينة بدلًا من أن يفضح الجريمة. وهكذا توحّد السلاح مع الكلمة، والعسكر مع المثقف، في جريمة واحدة تقضي على إنسانية الضحايا مرتين: بالرصاص أولاً، وبالتسويق الإعلامي ثانيًا.

من أبرز مظاهر هذا التواطؤ ما حدث مع القيادات التي دعت إلى التهدئة والتفاوض. كل صوتٍ خرج من دارفور مطالبًا بالسلام — سواء من الطاهر حجر أو سليمان صندل من جانب «تأسيس»، أو مني أركو مناوي من جانب حركة التحرير — واجه حملات منظمة من أقلام مركزية وغرف إعلامية إسلامية متحالفة. تم تشويههم باتهامات الانتهازية والخيانة، وأُجبر بعضهم على التراجع أمام هجمات إعلامية ممنهجة. بدلًا من دعم تلك الدعوات، تحركت الأقلام لتبرير استمرار الحرب باسم «الكرامة الوطنية» و«استعادة الدولة». حتى المبادرات الإنسانية من داخل الفاشر قوبلت بالتجاهل، لأن المركز كان ينتظر سقوط المدينة ليبدأ موسم المتاجرة الجديدة: إدانات جاهزة، دموع تماسيح، وأرقام «المعارك» التي تُعد كأنها مباريات — المعركة رقم ٢٠٠، المعركة رقم ٢٥٠، المعركة رقم ٣٢١ — وكل رقم فيها يضيف طبقة جديدة من الزيف.

في هذا المشهد، يظهر مثقفو المركز كظلٍّ للنظام الجلابي. يتحدثون عن الحرية وكرامة الوطن بأدوات السلطة ذاتها، يبيعون الدم بالكلمات كما يبيعه الجنرالات بالسلاح. كلا الطرفين وجد في الحرب وسيلة للبقاء ومصدر نفوذ، وكلاهما يدرك أن السلام يعني سقوط أقنعتهما معًا. لقد أنقذ هؤلاء أسرهم ورحّلوهم إلى مصر والسعودية وأوغندا، وأمّنوا الغذاء والدواء لعوائلهم، بينما تُركت مدن بأكملها تموت جوعًا في دارفور. يتحدثون في المؤتمرات عن الأخلاق، ويسكتون في الميدان عن المذابح. ذلك التناقض بين الخطاب والفعل هو خيانة لضمير المثقف ولحقّ الوطن نفسه.

الإدانة لكل من ارتكب جرائم حرب أو انتهاكات إنسانية واجبةٌ بلا تردد، لكن الأخطر من القاتل هو من حوّل الدم إلى سلعةٍ سياسية تُباع وتُشترى. الموقف الأخلاقي لا يُقاس بعدد البيانات، بل بجرأة الدعوة إلى وقف الحرب وتأسيس مسارات سلامٍ حقيقية. الحرب في السودان لم تبدأ في 15 أبريل، بل حين قُسّم الإنسان إلى طبقات، وحين أصبحت المركزية دينًا غير معلن للدولة. السلام الحقيقي ليس اتفاقًا بين سلاحين، بل تحريرًا للوعي من مركزية الإنسان الواحد. فالسودان الجديد لن يُبنى على الخرطوم وحدها ولا على الفاشر وحدها، بل على اعترافٍ واحدٍ بسيط: كل الدم حرام، وكل وطنٍ لا يتسع للجميع ليس وطنًا بل مقبرة للضمير.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.