في السودان، لا يدان القاتل بقدر ما يقاس انتماؤه. حين يعتقل أبو لولو يقدم مجرما، وحين يحتفى بكيكل قائدا وطنيا، تصمت الألسن. العدالة هنا ليست ميزانا للفعل، بل مرآة للهوية. وهنا ينغرس الجرح النازف في ضمير الدولة السودانية: الانتماء يطهر الجريمة، بينما يضاعفها على الهامش.
ليست الكارثة في عدد الضحايا فحسب، بل في تلك القدرة المرضية على تبرير القتل تحت لافتة الوطنية. في هذه الحرب، لا يسأل القاتل عمن قتل، بل يسأل: في أي صف وقف؟ فإن وقف في صف المركز غفر له، وإن انتمى إلى الهامش صنف خائنا. هكذا يتحول الدم إلى بطاقة هوية، والجريمة إلى سلم للصعود الاجتماعي.
ومع ذلك، لا يمكن السكوت عن جريمة مثل جريمة أبو لولو، الذي مارس القتل الوحشي وانتهاك القانون والإنسانية معا. ما فعله لا يمثل قضية ولا مقاومة، بل انحرافا أخلاقيا يجب أن يدان بلا مواربة. فالقضية التي لا تتسع لإدانة أبشع الجرائم باسمها، تتحول إلى غطاء أخلاقي للخراب. لقد قتل أبو لولو ببرود كما قتل كيكل، والدم واحد مهما اختلفت الشعارات. كل من يبرر الجريمة لأنه يتوهم أنها تخدم “قضيته”، يسقط في نفس مستنقع المركز الذي ننتقده.
لم يكن أبو عاقلة كيكل نتاجا للفوضى، بل أحد أدواتها المصنوعة بعناية في مختبرات السلطة. كان ثمرة مدروسة لسياسات عبد الفتاح البرهان، الذي أتقن لعبة الاختراق والتضليل داخل خصومه. فكيكل لم يزرع في الدعم السريع عبثا، بل كجزء من خطة أوسع لإرباك الميدان وإعادة إنتاج الفوضى في شكل جديد. وبعد أن أعلن انضمامه الرسمي إلى الجيش في أكتوبر 2024، بدأ تنفيذ أخطر فصول الخدعة: وزع أسلحة خفيفة على المدنيين وتركهم يواجهون قوات الدعم السريع المجهزة بأسلحة ثقيلة. كانت تلك المقامرة القاسية جزءا من خطة استخباراتية كبرى أعدها البرهان لتفجير الداخل السوداني. فالمواطنون الذين ظنوا أنهم يدافعون عن أنفسهم وجدوا أنفسهم في قلب كمين دموي، حيث تحولوا إلى وقود لمعركة مخططة سلفا. وهكذا استخدم البرهان كيكل مرتين: مرة كجاسوس مزروع داخل الدعم السريع، ومرة كأداة سياسية لإشعال الميدان وتبرير القمع. كانت تلك الخطة نسخة طبق الأصل مما فعله في الفاشر حين جعل المدينة مسرحا مفتوحا للدم قبل أن يقدم نفسه منقذا. وفي المرتين، ابتلع الدعم السريع الطعم نفسه، فكانت النتيجة أن دفع المدنيون إلى الموت باسم الدفاع عن الوطن، بينما كان الوطن مجرد ورقة في يد الجنرال.
منذ ديسمبر 2023، تحول مشهد الجزيرة إلى عرض دعائي لدولة تدير الحرب كما تدير حملة علاقات عامة. تروج للبطولة حين يكون القاتل حليفا، وتطلق شعارات العدالة حين يكون الخصم ضحية. بعد انشقاق كيكل، شنت قوات الدعم السريع حملات انتقامية واسعة كانت في جوهرها نتاجا لخدعة استخباراتية صاغها البرهان بعناية، إذ صمم المشهد بحيث يدان الدعم السريع دوليا على انتهاكات استدرج إليها عمدا. وفي يناير 2025 وثقت هيومن رايتس ووتش هجوم قوات درع السودان المتحالفة مع الجيش على قرية طيبة، واعتبرته استهدافا متعمدا للمدنيين يرقى إلى جرائم حرب. لكن السؤال الجوهري لم يكن من الذي قتل، بل من الذي يملك شرعية رواية القصة. حين تملك السلطة صوت الإعلام وسلطة السلاح، تستطيع بسهولة أن تزيف الوعي، فتحول المجرم إلى منقذ، والضحية إلى متهم.
وفي جبال النوبة، قصفت مدرسة الهدار في مارس ٢٠٢٤ فمات الأطفال داخل فصولهم وهم يحملون كتبهم الصغيرة. لم يتحرك أحد، ولم يتحدث أولئك المثقفون الذين يرفعون شعارات حقوق الإنسان إلا عندما يكون الضحايا من المركز أو من الهامش يريد ان يتاجر بهم مثقفي المركز . وفي النيل الأزرق قصفت طائرات الجيش في ديسمبر ٢٠٢٤ مخازن الغذاء العالمي في منطقة تعاني من المجاعة، فمات المئات جوعا وحرمت الأسر من الدواء. ومع ذلك، انهمرت دموع التماسيح على الشاشات من أفواه مثقفين منافقين يزعمون الدفاع عن الإنسانية وهم في الحقيقة يبررون الجريمة حين يرتكبها جيش المركز.
وعندما دخل الجيش والكتائب التابعة له الجزيرة، رأينا مشاهد إبادة في قرى الكنابي: قتل واغتصاب وتهديم للبيوت وحرق للمدنيين. كانت جريمة شاملة ضد مواطني الكنابي، ومع ذلك سكت المثقفون الذين يحاضرون عن الأخلاق ويدعون النزاهة. ذلك الصمت هو الإدانة الكبرى، صمت يقتل أكثر مما يفعل الرصاص، لأنه يمنح الشرعية للقاتل ويغطي الدم بشعارات الوطنية.
في قلب هذا الكابوس، أحرقت الكنائس وتعرضت دور العبادة للهجوم والتدمير، وحولت أماكن الصلاة إلى دلائل صارخة على موت الضمير الجماعي. تلك الجرائم لم تكن أحداثا عابرة، بل شهادة على انهيار المعنى ذاته. حين يُستباح بيت الله ويصفق البعض لأن الجيش يتقدم، نكون قد دخلنا مرحلة تموت فيها الروح قبل الجسد.
ولا يمكن فهم هذه الانتهاكات دون العودة إلى جذر الداء. فمنذ عام 1958، أنشأت الدولة أكثر من ثمانين مليشيا تحت شعارات متعددة: الدفاع الشعبي، فتولينا متين كافي طيارة ، الجنجويد، ، تماذج، درع السودان، وغيرها. الجيش لم يحارب المليشيات يوما، بل صنعها واستعملها، ثم تبرأ منها حين انفلتت من عقالها. هو من أنشأ الدعم السريع، ودربه وسلحه وشرعنه في دستور 2014، وهو من أطلق قادته إلى الواجهة ثم تظاهر بمحاربتهم حين تمردوا عليه. الدولة التي تنجب المجرم ثم تنكر نسبه ليست ضحية للعنف، بل هي أمه الشرعية.
في هذا المشهد، ليس الصمت عن القتل حيادا، بل هو تواطؤ صريح. كل من دعم الجيش رغم علمه بانتهاكاته، وكل من صمت على قصف الفاشر والجزيرة وجبال النوبة والنيل الأزرق، يمارس جريمة أخلاقية مغلفة بالوطنية. الذين يبررون الموت باسم الدولة يضعون ضمائرهم في خدمة الجريمة. فالسكوت ليس موقفا رماديا، بل هو وقوف في صف القاتل.
أبو لولو يدان لأنه من الهامش، وكيكل يكرم لأنه من حاشية السلطة. في دولة تبنى على الانتماء لا القانون، يعاقب الفقير ويكافأ القاتل. هكذا يموت العدل مرتين: مرة في ساحة الفعل، ومرة في محكمة التبرير. القضية لم تعد فيمن أحرق القرى، بل فيمن صمت عليها، فيمن منح الرتب، وفي من غسل الجريمة بسيول من الشعارات الجوفاء.
الدولة التي تكافئ القاتل لأنها صنعته وتعاقب المظلوم لأنه كشفها، لا يمكن إصلاحها بصلح أو مائدة حوار. لا بد من هز البنية التي جعلت من الهوية بديلا عن الأخلاق ومن الانتماء غطاء للجريمة. لن ينهض السودان حتى يتساوى أبو لولو وكيكل أمام قانون واحد، وحتى يحاسب من صنعهما معا: ذلك النظام الذي جعل الدم وسيلة للسلطة، والقتل طريقا مزورا إلى الوطنية.
العدالة التي تفرق بين الجناة بحسب مواقعهم وهوياتهم ليست عدالة، بل قناعا فاقعا للنفاق. والوطن الذي يكافئ القاتل على حسب رايته لن يعرف سلاما مهما تغيرت الحكومات والأسماء. ما لم يحاسب البرهان ومن زرعوه ومن نفذوا أوامرهم، سيبقى السودان دولة تلد القتلة ثم تمنحهم أوسمة الشرف.
أدين جريمة أبو لولو كما أدين قصف الهدار ويابوس، لأن القتل لا يصبح بطولة حين يغير القاتل رايته.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.