تُصرُّ بعض النخب المركزية على توصيف ما جرى في الفاشر بـ”السقوط”؛ وهو توصيف لا ينمُّ فقط عن انحياز فجٍّ لرواية الجيش الرسمي الذي طالما استخدم طائراته ومدفعيته لإبادة القرى الآمنة في دارفور، بل يكشف أيضًا عن قصر نظر سياسي، وجهلٍ فادح بجغرافيا الصراع السوداني.
فالجيش الذي يتباكون اليوم على “تراجعه التكتيكي” في الفاشر هو ذاته الذي ظلّ، على مدى عامٍ كامل، يقصف مدن الكومة التي بلغ عدد الغارات عليها أكثر من مئةٍ وثمانيةٍ وعشرين مرة، ويقصف كبكابية ومليط وسَرف عُمره والزرق وطرة التي استهدفها يوم تسوقها الأسبوعي فقتل في لحظةٍ واحدة أكثر من أربعمئة مدني. وهو ذاته الذي أمطر زالنجي والضعين ونيالا والجنينة وبلبل تمبسكو بالقذائف، وأحالها رمادًا، ودفن فيها مئات الأرواح البريئة. ولم تسلم من بطشه مدن الفولة وأبوزبد وأم صميمة وكازقيل والنهود والخوي وغيرها، في نهجٍ متعمد لإبادة الشعوب السودانية وترويعها.
ومع ذلك، لم يرَ أولئك الذين يندبون “سقوط الفاشر” في كل ذلك سقوطًا يستوجب الإدانة، ولا جرائمَ تستحق الوقوف، بل صمتوا دهراً ونطقوا اليوم كذباً.
الحقيقة أن الفاشر لم تسقط، بل تحررت. تحررت من قبضة نخبة أمنية وسياسية ظلت لعقود توظف الجيش لحماية مصالحها، لا لحماية الوطن. تحررت من رمزية جيشٍ لم يُخض معركة واحدة ضد عدو خارجي، بل تخصص في الانقلابات وقمع الثورات وقتل المدنيين. تحررت من تمثيلات الدولة التي كانت تعني لسكان الهامش الضرائب، والجلد، والجبايات، والمليشيات، والإقصاء، والتهميش.
تحرير الفاشر لحظة فارقة في تاريخ السودان الحديث، لأنها تسقط آخر أوراق التوت عن نخبة المركز. لقد جُرِّدت النخبة من أقنعتها الزائفة: فلا المدنية أنقذتها، ولا القومية جمّلت وجهها، ولا العروبة المزعومة سترت عورتها. وها هي الآن تتوسل خطاب “الكرامة” و “الوحدة” بعد أن ساندت أبشع حملات الإبادة والتطهير العرقي في تاريخ السودان.
سخر أحدهم من دعاة الحرب — جماعة “بل بس” — الذين يريدون إدانةً دولية للدعم السريع، لكنهم يرفضون تحقيقًا دوليًا في شأن السلاح الكيماوي الذي استخدمه الجيش في مدن عدة. يريدون دعماً دوليًا وإغاثةً إنسانية، ثم يطردون موظفي المنظمات المختصة. يريدون العالم أن يدين “المليشيا” وسلوكها، بينما هم يصنعون المليشيات ويعدون لإطلاقها في وجه الشعب.
يتفيأون ظلال مصر وتركيا وقطر وإريتريا وإيران وروسيا، باسم “دعم الجيش الوطني”، ثم يستشيطون غضبًا حين تمتد يدُ الإمارات إلى مساعدة الثوار في غرب السودان. مفارقة تكشف أن الصراع عندهم ليس بين دولة ومليشيا، بل بين طموحين للهيمنة، كلاهما ينهش ما تبقّى من جسد البلاد.
هذا هو النمط من “الأعوان” الذي ما زال المركز يعتمد عليه في استمالة العوام وتحشيدهم تحت راية دينية كاذبة، وقومية زائفة، وعروبة هجينة، ما جلب على السودان سخط المجتمع الدولي، وأدى لعزله سياسياً واقتصادياً لعقود.
إنّ نخب المركز – ومن يدور في فلكها من نخب الأقاليم المصطنعة – قد امتهنت الكذب والتضليل، وأتقنت صنعة التشويه وتزوير الوعي. فصوّرت لنفسها ولأتباعها أن الريف تمردٌ، وأن السعي إلى العدالة والمساواة خطرٌ على “الوطن”، بينما الوطن، في حقيقته، لم يكن يوماً سوى حدود نهرية تجتمع فيها المصالح، وتتقاطع فيها الولاءات العابرة لكل معنى للهوية الوطنية.
ولكن، بتحرير الفاشر، تتغير المعادلة. لقد كسر الهامش السوداني حاجز الخوف، وأسقط هيبة المركز المزيفة، ودخل التاريخ من باب المقاومة الشريفة، لا من باب المساومات الرخيصة. دخل وهو يحمل سلاحاً في يد، وراية الحرية في اليد الأخرى. لم يعد أهل الريف يُقاسون بمعيار المركز، بل أصبح المركز نفسه مطالباً بمراجعة مفاهيمه، والتخلي عن عنجهيته، والانفتاح على سودان جديد، تعددي، عادل، لا فضل فيه لعربي على أعجمي، ولا لقروي على مدني، إلا بالوطنية والمساهمة الفاعلة تجاه المجتمع والإنسانية.
إنّ الغرب، بتاريخه العريق، وبصموده أمام موجات الغدر والتآمر، يقدم اليوم درساً في الوطنية الحقة. فقد قاوم لأكثر من قرنين — منذ استشهاد المقدوم مسلم في مواجهة جيش الدفتردار (1821), مرورًا بملحمة مناوشي التي استشهد فيها السلطان إبراهيم قرض في مواجهة الزبير باشا (1874)، دون دعم حقيقي، بل تأمر من العملاء المحليين. قاوم الغرب لأنه يعرف، بفطرته، أن الكرامة لا تُوهب، وأن الحرية لا تُشترى، وأن السيادة لا تُستعطى، بل تُنتزع انتزاعاً.
ليس المقصود من التباكي على قتلى الفاشر اليوم استنكار الفعل المستقبح والمستهجن في ذاته، بل استغلاله أداةً في معركة السرد، لتجريم خصمٍ يزحف نحو نصرٍ بات، في عيون خصومه، خطيئةً كبرى.
لم يكن القتل في تاريخ المؤسسة العسكرية حادثًا عابرًا، بل منهجًا مؤسّسًا على إذلال الخصم وتجريده من إنسانيته. كانت أجساد الأسرى الجنوبيين تُعامَل كغنائم حرب، تُعلّق آذانهم في مقدمة المركبات العسكرية (المجروسات) للتباهي بالنصر. وعلى النقيض، حين أتيح لقيادة الدعم السريع أن تمارس سلطة الغالب بعد معركة قوز دنقو، سلّمت الأسرى الذين تجاوز عددهم الخمسمائة أحياءً، قبل أن تُدفن ذكراهم في دهاليز الاستخبارات العسكرية. فيما ظل جبريل إبراهيم يطالب بمعرفة مصير رفاقه، لكنه سرعان ما التهى بسرقة المال العام وآثر الانصياع لأوامر الجلاد.
نحن الآن أمام لحظة تاريخية فاصلة، تستوجب منا إعادة النظر في كل شيء: في مفهوم الدولة، وفي معنى المواطنة، وفي أسس توزيع الثروة والسلطة، وفي سردية “السودان الواحد” التي أكل عليها الدهر وشرب. فإما أن نعيد كتابة العقد الاجتماعي على أسس جديدة، تعترف بالهامش كشريك أصيل، لا كملحق تابع، وإما أن نمضي، كما كنا منذ الاستقلال، في مسار التفكك والانهيار البطيء.
تحرير الفاشر ليس مجرد انتصار عسكري، بل هو تحريرٌ للوعي الجمعي السوداني من أسر المركزية المتعالية، وهو تمهيد لبداية سردية بديلة، يكتبها من عاشوا التهميش والتنكيل، لا من أنكروا وجوده. ولئن كان الطريق طويلاً، فإن هذه الخطوة تعني أننا بدأنا المسير في الاتجاه الصحيح.
الفاشر لم تسقط، بل تحررت. والسودان لم ينته، بل بدأ يُولد من جديد.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.