مجازر الكنابي في السودان تاريخ الدم المنسي

جعفر محمدين عابدين

في واحدة من أعنف المجازر الصامتة التي ارتُكبت بحق الشعوب، يقف تاريخ قوميات الكنابي في السودان شاهدًا على سلسلة طويلة من الانتهاكات والانكسارات، التي لم تبدأ اليوم، بل تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ السوداني. فقد ظل إنسان الكنابي، لعقود طويلة، يتعرض للتهميش، والتمييز، والقمع الممنهج، دون أن يجد من ينصفه أو يردّ عنه الظلم.
لم يكن سكان الكنابي مجرد عمال زراعيين موسميين، بل كانوا القلب النابض للمشروع الوطني، لاسيما في مشروع الجزيرة، ذلك الصرح الاقتصادي الذي شُيّد على عرقهم ودمهم منذ نشأته. شكّل أبناء الكنابي عماد الثورة الزراعية في السودان، وكانوا العمود الفقري للإنتاج والنهضة الاقتصادية، يروون الأرض بعرقهم، ويحيون الحقول بحياتهم، ويعملون بصمت في سبيل وطن لم يمنحهم الاعتراف الذي يستحقونه.
ورغم هذه التضحيات الجليلة، لم يُكافأ إنسان الكنابي إلا بالنكران. كانت “المكافأة” هي الجريمة: القتل، والحرق، والنهب، والوصم، والإقصاء. جُرّدوا من حقوقهم السياسية والاجتماعية، وتم تصويرهم زورًا كمجرد عمال وافدين فرضتهم الظروف أو التغيرات البيئية، في محاولة لطمس هويتهم الوطنية ونضالهم التاريخي.
الانتهاكات التي تعرّض لها سكان الكنابي – من الإبادة الصامتة إلى الحرمان من الحقوق الأساسية – ستظل جرحًا مفتوحًا في الذاكرة الجماعية، ووصمة عار في جبين كل من تواطأ أو صمت. إنها مآسٍ لا تُنسى، ما لم يُعاد الاعتبار وتُردّ الحقوق ويُؤسس لمسار عدالة حقيقية يليق بحجم هذا التاريخ المنسي.
لقد رُويت أرض السودان بدماء أبناء الكنابي الطاهرة، في مجازر ممنهجة نُفّذت بدم بارد. قُتل الآلاف وأُلقيت جثثهم في ترع المشروع الزراعي والكنارات الكبرى، حتى أصبحت الحكايات اليومية في الكنابي تقول: “فلان ذهب إلى المزرعة ولم يعد”، وبعد أيام، يُعثر على جسده طافيًا في المياه أو مدفونًا في العراء.
كانت كل مناطق الكنابي – في الجزيرة وسنار والنيل الأبيض وغيرها – مسرحًا لجرائم إبادة جماعية نُفّذت بدقة، فيما تم توثيق أقل من 1% فقط من تلك الفظائع. الآلاف لقوا حتفهم تحت التعذيب في السجون والمعتقلات، وعلى رأسها سجون ود مدني، المناقل، الكاملين، والمعتقلات السرية. ولا يزال هناك آلاف المفقودين من أبناء الكنابي في القرى والمدن والأحياء الطرفية، لا يُعرف عن مصيرهم شيء.
ومع كل هذه الجرائم، لم يُحرّك للحكومة في بورتسودان ساكن، بل رأى بعض قادتها في ذلك “انتصارًا” مزعومًا، لأن الضحايا كانوا من أصحاب لون بشرة مختلف أو أصول عرقية مستهدفة. فأي عقل يبرر القتل على أساس اللون أو الانتماء؟ وأي عدل يقبل أن يُصبح العِرق تهمة تستوجب الإبادة؟
الإنسان لا يختار لونه، ولا قبيلته، ولا موطن ولادته. فلماذا يُعاقب على شيء لم يختره؟ لماذا هذه العنصرية التي تمزق نسيج السودان، وتُهدد مستقبله المشترك؟
في الختام:
فليعلم أولئك الذين استباحوا دماء الأبرياء، أن دماء الكنابي لم ولن تُنسى، وأن ذاكرة الشعوب لا تموت. ومهما طال ليل الظلم، فإن فجر العدالة آتٍ لا محالة. لأن الدول لا تُبنى على الإقصاء والقهر، بل على العدل، واحترام الآخر، والاعتراف بالكرامة الإنسانية لكل مواطن، بغضّ النظر عن لونه أو دينه أو عرقه.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.