في التاسع من يوليو، تحتفل جوبا بيوم استقلالها عن السودان، بينما الخرطوم تكتفي بالصمت أو الحنين إلى ما تسميه “الانفصال”. لكن الحقيقة الأعمق أن هذا اليوم يجب أن يُسمّى يوم الاعتذار السوداني، يومًا وطنيًا يُنكّس فيه العلم في الخرطوم لا حزنًا على ذهاب الأرض، بل ندمًا على ما اقترفته النخب المركزية من جريمة تاريخية لا تزال تفيض بآثارها: تجارة الرقيق، الاستعمار الداخلي، والتأسيس لطبقية اجتماعية عرقية ما زالت تقسم السودان إلى سادة وعبيد.
الجنوب لم ينفصل لأنه أراد دولةً مستقلة فقط، بل لأنه أراد النجاة من جحيم مشروع قومي عنصري بُني على أكتافه، ومسح هويته، وامتص موارده، وسوّق له صورة المتخلف والخطر والتابع. الجنوبي لم يكن شريكًا في الدولة، بل كان غنيمة. وما حدث في أسواق الرقيق في الموردة والأبيض ومدني لم يكن فصلًا عابرًا في كتاب التاريخ، بل كان أساسًا بُني عليه السودان الحديث، الذي ظل يستثمر في نتائج الرق حتى بعد إلغائه، ويغذي مؤسساته من تراكم ثرواته، ويعيد إنتاج العبودية بأشكال جديدة.
لم يكن الزبير باشا وحده، بل كان رأس جبل الجليد في شبكة طويلة من تجار الدم، الذين صنعوا مجدهم من بيع الجنوبيين نساءً ورجالاً وأطفالاً، تحت أعين الدولة العثمانية والبريطانية، وبمساعدة نخب سودانية “وطنية”. ما درّسونا إياه في المدارس لم يكن الحقيقة، بل مسخٌ للتاريخ. لم يقولوا لنا إن الموردة جاءت من “توريد الرقيق”، ولا أن الزبير باشا باع آلاف النساء إلى مصر وتركيا وأوروبا، ولا أن منازل الخرطوم شُيّدت على عظام أولئك الذين حُملوا مقيدين من بحر الغزال إلى أم درمان قالوا لنا إنه بطل.
وان جامعة الخرطوم بناها المتعاقدين من النخبة بواسطة الرقيق السوداني تحت أيديهم .
لقد خرج المستعمر الإنجليزي، وبقي الاستعمار الحقيقي. استعمار النخب النيلية، المكوّن من ثلاث قبائل سيطرت على السلطة والثروة، واحتكرت التعليم والمشاريع والبنية التحتية، بينما تركت الجنوب في جهل وفقر وأمية. هذه ليست صدفة جغرافية، بل سياسة ممنهجة. حُرم الجنوب من الجامعات، من الطرق، من المستشفيات، لا لضعف الإمكانيات، بل لأن الدولة أُسست على مبدأ الإقصاء. كانت الخرطوم تشيّد المدارس لأبنائها، بينما تدفع الجنوبيين إلى حمل السلاح أو القبول بالدونية.
وفي كل مرة حاول فيها الجنوب النهوض، تدخلت الخرطوم، دعمت المليشيات، غذّت القبلية، وأبقت البلاد رهينة لصراعات داخلية تضمن استمرار الهيمنة. لم يكن هناك تمرد في الجنوب إلا ووجد في الخرطوم راعياً سرياً أو علنياً، يتقن صناعة الفشل، ويحرس التخلف كما لو كان كنزه الوطني. حتى عندما استقل الجنوب، لاحقته الخرطوم بالتخريب. فما من اضطراب سياسي أو عسكري إلا وله جذور في يد خفية جاءت من العاصمة، تدير الخرائط كما يدير اللاعب المحترف أوراق الشطرنج.
ومع ذلك، يحتفل الجنوب. يحتفل لأنه نجا. لأنه خرج من قيدٍ لا يُرى، لكنه كان أثقل من الحديد. يحتفل رغم الجراح، رغم الفقر، رغم القبلية التي زُرعت عمداً، والمليشيات التي تم تمويلها يوماً من الخزينة العامة. يحتفل لأنه تحرر من استعمار وطني أكثر خيانة من أي احتلال أجنبي. لكن الخرطوم، بدلًا من أن تعتذر، بقيت تدرّس أبناءها أن “الجنوب انفصل”. تدرّس أن المستعمر خرج، دون أن تعترف أن الاستعمار بقي، من مستعمر خارجي الى مستعمر داخلي.
إن يوم التاسع من يوليو لا يجب أن يكون ذكرى للانفصال، بل لحظة اعتراف. لحظة تخلع فيها الخرطوم أقنعتها وتقول: لقد أخطأنا. لقد بنينا سوداننا على أكتاف اخواننا الذين استعبدناهم، ثم أنكرناهم. استفدنا من مؤسسات، وتعليم، وتنمية، وثقافة وهوية، كلها جاءت من نظام ظالم، ثم أنكرنا ذلك. اليوم يجب أن نقول، نحن – أبناء المركز – كنّا مستفيدين، شئنا أم أبينا. استفدنا من مدارس لم تُبنَ في واو، من كهرباء لم تصل إلى ملكال، من جامعات لم تُفتح في توريت. استفدنا من صورة نمطية زرعها التاريخ، بأن الجنوبي لا يصلح إلا خادماً، أو تابعاً، أو عسكرياً بلا عقل.
لذلك، فإن الاعتذار ليس مجاملة، بل التزام أخلاقي، وشرط بقاء إنساني. كما اعتذرت أستراليا لسكانها الأصليين في “سوري دايsorry Day ”، وكما اعتذرت ألمانيا لليهود، وكما اعتذرت جنوب إفريقيا لأبنائها، يجب أن تعتذر الخرطوم لأبناء الجنوب. لا لأنهم طالبوا بذلك، بل لأن التاريخ يطالبنا. لأن الصمت لم يعد خيارًا، ولأن الجرح ما زال ينزف في جسد الأمة، وفي ذاكرة الجنوب، وفي ملامح طفل جَنُوبي لا يزال يقرأ خريطة السودان القديمة في كتابٍ مُصفرّ كتبته الخرطوم، دون أن تكتب فيه كلمة: “نحن آسفون” “SORRY DAY ”
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.