بين “كيكل” و “أبو لولو” .. من هو البطل ومن هو السفاح؟

عبدالرحمن العاجب

في خضمّ المأساة السودانية المتواصلة، تتبدّى مفارقات مؤلمة في نظرة المجتمع والإعلام، المحلي والدولي، إلى من تورّطوا في جرائم الحرب والانتهاكات بحق المدنيين. فبين اللواء أبو عاقلة كيكل، قائد قوات درع السودان الذي تورط في إنتهاكات وجرائم في ولاية الجزيرة، وأبو لولو، القائد الميداني بقوات الدعم السريع المتورّط في إنتهاكات وجرائم في أحداث سقوط مدينة الفاشر، يقف التاريخ أمام سؤالٍ أخلاقي وسياسي حاد: أيهما السفّاح؟ أم أن السفّاح هو من تلطّخت يداه بدماء الأبرياء، مهما اختلفت الرايات؟

تُشير التقارير الحقوقية الميدانية إلى أن قوات اللواء أبو عاقلة كيكل، التي انتشرت في ولاية الجزيرة، وهي قوات درع السودان والمليشيات المتحالفة معها، ارتكبت فظائع مروعة بحق سكان الكنابي، بولاية الجزيرة في وسط السودان، فقد شهدت مناطق واسعة من الولاية عمليات قتلٍ جماعيٍ وتشريدٍ ونهبٍ واسعٍ للمتلكات، رافقتها انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ. ولم تتوقف الجرائم عند القتل والنهب، بل امتدت لتشمل الاغتصاب والتعذيب والحرق المتعمد للمنازل والمزارع، ما حوّل حياة المدنيين إلى جحيمٍ يومي.

وكشف تحقيق إستقصائي لكاتب المقال عن إنتهاكات ممنهجة وتهجير إجباري إرتكبتها قوات كيكل والمليشيات المتحالفة معها بحق سكان الكنابي، وفي السياق أكد الأمين العام لمؤتمر الكنابي، الدكتور جعفر محمدين مقتل (1200) مواطن من سكان “الكنابي” على يد قوات درع السودان والمليشيات المتحالفة معها، وأشار جعفر إلى أن هنالك مفقودين من سكان “الكنابي” لم يُعرف مصيرهم حتى الآن، مؤكداً إستمرار الإنتهاكات ما يجعل اعداد القتلى في تزايد، وحصرت مركزية مؤتمر الكنابي عدد “2195” كمبو، بخلاف الامتداد الغربي في أبوقوتة وتمبول بشرق الجزيرة، ووصفت ما جرى لسكان الكنابي بأنه “تطهير عرقي وتهجير قسري” وأكدت حرق عدد “160” كمبو في ولاية الجزيرة، وتهجير سكانها بالكامل، وقدرت الأضرار المادية لسكان “الكنابي” بترليونات الجنهيات، ونهب أكثر من (5000) ألف رأس من الماشية.

وتعرض سكان الكنابي إلى إنتهاكات حقوق الانسان تفاوتت بين القتل وحرق الكنابي والتهجير ونهب الممتلكات، وبعد سيطرة الجيش والمليشيات المتحالفة معه على ولاية الجزيرة تعرض سكان “الكنابي” للاستهداف العرقي والتهجير القسري، كما تعرضوا للقتل والذبح والتصفيات الجسدية وحرق المواطنين والمساكن والاعتقال والتعذيب والتهجير ونهب الممتلكات، وبتاريخ 10 – يناير- 2025 تم تهجير سكان “كمبو قمبو” بمنطقة مهلة واحتجاز جميع مواطني الكمبو بمنطقة المدينة عرب، مع اعتقالات وتعذيب لشباب الكمبو. وتم نهب جزء من ممتلكات مواطني كمبو قمبو وترحيل المنهوبات بالعربات والدفارات الي المناقل، وفي نفس اليوم تم تهجير سكان “كمبو عشرة” ريفي الحوش والاعتداء علي قرية النسيم، وتم نهب الماشية والمحاصيل من قبل الجيش ومستنفري الشريف مختار.

وفي ذات السياق قال مدير منظمة مناصرة ضحايا دارفور أدم موسى أوباما: أن الاستهداف المنهجي لسكان “الكنابي” بناءً على هويتهم العرقية، ولا سيما من خلال القتل الجماعي، والتهجير القسري، والتعذيب، يتوافق مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية، فيما توصل التحقيق إلى أن استهداف سكان “الكنابي” في السودان يمثل تجسيد للتهميش والانتهاك المنهجي الذي ظلت تتعرض له هذه المجتمعات على مدار العقود الماضية، إضافة إلى تعمد أجهزة الدولة الرسمية ومع سبق الإصرار والترصد لحرمان هذه المجمتعات من حق المواطنة وحقوق الإنسان الأساسية.

وتوصل التحقيق الذي أعده كاتب المقال إلى حقيقة مفادها أن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات درع السودان والمليشيات المتالحفة معها، ليست حوادث معزولة، بل هي إنتهاكات ممنهجة ومنظمة ومقصودة كان الهدف منها التهجير القسري لسكان “الكنابي”.. ورغم التوثيقات المتزايدة من منظمات حقوقية محلية ودولية، فإن بعض الخطابات السياسية والإعلامية حاولت تجميل صورة أبو عاقلة كيكل، وتقديمه كـ”قائد وطني” يدافع عن الأرض والعرض، متغافلةً عن الجرائم التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي إرتكبها بحق سكان الكنابي بولاية الجزيرة في وسط السودان.

وفي المقابل، شهدت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور واحدة من أكثر المآسي الإنسانية دموية، حيث نفذ المدعو “أبو لولو” وهو “الفاتح عبد الله إدريس” أعمال قتل جماعي وتنكيل بالمدنيين، وقد وثّقت منظمات الأمم المتحدة وشهادات الناجين عمليات إعدام ميداني واستهدافٍ للمدنيين الفارين من جحيم الحرب، في خرقٍ صارخٍ للقانون الدولي الإنساني، وتلقّى “أبو لولو” إداناتٍ صريحة من المجتمع الدولي، وجرى وصفه في العديد من التقارير بأنه “مجرم حرب وسفّاح” يجب أن يُقدّم إلى العدالة.

ويلُقّب “أبو لولو” أيضاً بـ “جزار الفاشر” ويُنسب “أبو لولو” إلى قوات الدعم السريع رغم أنها صرّحت بأنه ليس تابعاً مباشراً لها ، وبعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر بتاريخ 26 – أكتوبر – 2025 تقريباً، ظهرت تقارير وشهادات تفيد بوقوع مجازر، إعدامات ميدانية، قتل جماعي للمدنيين في الفاشر، وظهرت مقاطع فيديو يُزعم أنها تُظهر “أبو لولو” وهو يقوم بإطلاق النار على مدنيين، بعضهم في حالات عاجزة، أو يُعتقد أنهم أسرى أو مدنيون غير مقاتلين، وأعلنت قوات الدعم السريع بعد أيام قليلة من سقوط مدينة الفاشر أنّه تم إلقاء القبض على “أبو لولو” وعدد من المتهمين، تمهيداً للتحقيق معهم، وتقديمهم للعدالة.

الجرائم لا تُمحى .. والعقاب يجب أن يُنصف الضحايا، جرائم الحرب ليست مجرد تجاوزات عابرة أو أخطاء ميدانية؛ هي انتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، ونتائجها تدوم أجيالًا: قتل، تشريد، اغتصاب، تدمير للبنى التحتية والمدن، ومصادرة لمصادر رزق الشعوب، لذلك فإن المجتمع الدولي والمجتمع الوطني مطالبان بأكثر من إدانة كلامية: بمقاضاةٍ حقيقيةٍ ومعاقبةٍ عادلةٍ تضع حدًا للإفلات من العقاب وترد الحقوق المنهوبة للضحايا.

العقاب العادل لمجرم الحرب يجب أن يقوم على مبادئ قانونية واضحة وعمليات قضائية شفافة تحترم حقوق المتهم والمحاكمة العادلة، وفيها عناصر عملية وعقابية وإنصافية متكاملة، العقاب الذي يطالب به الضمير الإنساني ليس شعارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة قانونية وأخلاقية لبناء دولة قانون، وإن محاسبة “كيكل” أو “أبو لولو” أو أي فاعل ارتكب جرائم حرب يجب أن تتم وفق إجراءات قانونية واضحة، لا عبر محاكم شعبوية أو عقاب انتقامي خارج إطار القانون، العدالة العملية والآمنة والمنصفة هي السبيل الوحيد لوقف دوامة العنف، وإنصاف الضحايا، وإعادة بناء مجتمعٍ قائم على احترام الكرامة الإنسانية.

وتكشف المقارنة بين الموقفين الرسميين والإعلاميين تجاه “كيكل” و “أبو لولو” عن ازدواجية خطيرة في المعايير الأخلاقية والسياسية، فبينما تُساق الإدانات الصارخة ضد أحدهما، يُقدَّم الآخر في ثوب البطل، وكأن دماء الضحايا تختلف باختلاف هوية القاتل أو رايته أو انتمائه القبلي والسياسي، إنّ العدالة الانتقائية ليست عدالة، بل شكلٌ من أشكال الجريمة الموازية. فحين يُغضّ الطرف عن قاتلٍ لأنّه “منّا”، وتُرفع الشعارات ضد آخر لأنه “منهم”، تتحوّل المأساة الوطنية إلى بازار للدم والنفاق السياسي.

الجرائم لا تتجزأ .. والمجرم مجرم، ولا يمكن تبرير جريمة حربٍ أو التخفيف من وطأتها تحت أي ذريعة. القتل هو القتل، والتنكيل هو التنكيل، والاغتصاب هو انتهاك لحرمة الإنسان أينما وقع وبأي اسمٍ ارتُكب، ومن يُصفّق لكيكل لأنه “قاتل أعداءه”، مثل من يُدين أبو لولو لأنه “قتل غيره”، كلاهما يُسهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، إنّ السودان اليوم بحاجة إلى عدالة شاملة لا انتقائية، تحاسب كل من ارتكب جرائم ضد المدنيين، دون اعتبارٍ للهوية أو الانتماء. فالسفّاح لا يُعرّف برايته، بل بدماء ضحاياه.

بين “كيكل” و “أبو لولو” لا فرق في الجرم، وإن اختلفت الشعارات، فكلاهما ترك خلفه مدنًا مدمّرة وأسرًا مفجوعة وذاكرةً وطنية مثقلةً بالوجع، وفي نهاية المطاف، العدالة وحدها هي التي تحدّد من هو البطل ومن هو السفّاح، لا السلاح ولا الإعلام ولا التحالفات، فليكن المبدأ واضحًا: كل من قتل نفسًا بغير حقٍّ هو سفّاح، وكل من نجا من العقاب هو وصمة على جبين العدالة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.