سقوط أهلية التمثيل الدولي: حالة “نيالا” و “بورتسودان” في ميزان القانون الدولي

 عمار نجم الدين

في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، أعلن تحالف “تأسيس” من العاصمة السودانية نيالا حكومة انتقالية جديدة، تشكّل كيانًا سياسيًا وواقعيًا يوازي حكومة بورتسودان التي ما تزال تتمسّك بالصفة الشكلية لتمثيل الدولة السودانية في الأمم المتحدة. هذا الإعلان لم يكن مجرّد تطوّر محلي، بل إعادة تعريف جذرية لمعنى الشرعية في السياق السوداني، كما أنه يفرض على المجتمع الدولي، والأمم المتحدة على وجه الخصوص، مراجعة علاقتها بكيانين يدّعيان تمثيل ذات الدولة، فيما لم يعُد الشعب، ولا الجغرافيا، ولا القانون، يقف إلى جانب أحدهما.

رغم أن حكومة بورتسودان ما زالت تُعتبر بحكم الإجراءات الشكلية الممثل الرسمي للسودان داخل الأمم المتحدة، إلا أن الوقائع الميدانية والسياسية تشير بوضوح إلى تآكل هذه الصفة، لصالح حكومة “تأسيس” التي باتت تستوفي ـ على نحو متصاعد ـ الشروط القانونية والواقعية المعترف بها ضمن منظومة الأمم المتحدة: سلطة فعلية قائمة، سيطرة مستقرة على إقليم واضح، تفاعل مع شعب يخضع لها فعليًا، وإرادة سياسية دستورية مُعلنة. وفقًا للفقه القانوني الدولي، فإن الاعتراف بالحكومات لا تمنحه الأمم المتحدة بوصفه قرارًا جماعيًا، بل يُترك لتقدير الدول الأعضاء كل على حدة. أما المنظمة الدولية ذاتها، فتتعامل مع ما يُعرف بـ”السلطة الفعلية” على الأرض، على قاعدة الواقعية السياسية، لا المشروعية النظرية.

حكومة “تأسيس” انطلقت من أرضية دستورية صلبة، مُستندة إلى ميثاق تأسيسي واضح المعالم، يعكس إرادة سياسية تتجاوز الانقسام الإثني والجهوي، وتعيد بناء الدولة على قاعدة المواطنة والعلمانية والعدالة. هذه الحكومة تُمارس سلطتها فعليًا في رقعة جغرافية واسعة تمتد من الغرب إلى الجنوب والوسط، وتملك مؤسسات أمنية ومدنية قيد التشكيل، وتستمد دعمًا شعبيًا حقيقيًا. وإذا قورنت هذه المعطيات بحالات دولية سابقة تعاملت فيها الأمم المتحدة مع سلطات غير معترف بها رسميًا، نجد أمثلة مشابهة تمامًا: حكومة طالبان قبل 2001، المجلس الانتقالي في ليبيا عام 2011، والجبهة المتحدة في كمبوديا، التي مثلت البلاد في الأمم المتحدة رغم خروجها من الحكم. القاسم المشترك في هذه النماذج هو أن الأمم المتحدة، وإن لم تعترف رسميًا، لم تملك سوى التعامل الواقعي مع الطرف القادر على الفعل والتنفيذ.

على نحو غير معلن، باتت بعض العواصم الإقليمية والدولية تتعامل مع حكومة “تأسيس” كطرف لا غنى عنه في مستقبل السودان. تسريبات موثوقة تشير إلى اتصالات مباشرة أجرتها حكومات مثل الولايات المتحدة وفرنسا وكينيا مع قيادات “تأسيس”، وهو ما يُعبّر عن بداية اعتراف عملي، تحكمه المصالح الواقعية لا الاعتبارات الشكلية.

فالمعادلة في القانون الدولي لم تعُد مرتبطة بشهادات الميلاد البيروقراطية، بل بالسؤال الجوهري: من يملك الأرض؟ ومن يخاطب الشعب بلغة المستقبل؟
الفرق الجوهري بين الحكومة المعلنة في نيالا وتلك العالقة في بورتسودان ليس فقط في الموقع، بل في جوهر المشروع. فبينما تُقدّم حكومة بورتسودان نفسها كاستمرارية لدولة إسلاموية مأزومة، يتقادم خطابها ويضيق أفقها، تطرح حكومة “تأسيس” مشروعًا ديمقراطيًا علمانيًا حديثًا، يعكس تطلعات قوى الثورة، ويتناغم مع مبادئ الأمم المتحدة الجوهرية: احترام حقوق الإنسان، فصل الدين عن الدولة، تمكين المرأة، وضمان التعدد الثقافي والإثني. هذا الطابع التقدّمي يجعل من حكومة “تأسيس” شريكًا منطقيًا للمنظومة الدولية، لا تهديدًا لها.
لكن الأهم من كل ذلك، أن حكومة “تأسيس” لا تطرح فقط مشروع حكم، بل مشروع أمن جديد. ففي الوقت الذي تأسست فيه الدولة السودانية منذ الاستقلال على مبدأ عسكرة القبائل، وتسليح المليشيات، وإدارة الحروب بعقيدة استعلائية عنيفة أدت إلى إبادة جماعية واستخدام أسلحة كيميائية، تطرح “تأسيس” رؤية مغايرة تمامًا: دمج جميع القوات في جيش وطني جديد، بعقيدة عسكرية “عشرية” تلتزم بحقوق الإنسان والقانون الدولي، وتقطع مع عقلية التمكين والاستثناء. إنه مشروع لإعادة تعريف الجيش بوصفه أداة لحماية المواطنين، لا لضربهم أو توظيفهم في صراعات النخب.

إعلان حكومة تأسيس من نيالا، عاصمة جديدة لوجدان السودان، لم يكن استعراضًا سياسيًا، بل لحظة تأسيس سيادي جديد. لحظة تُعلن، عمليًا ونظريًا، نهاية الدولة السودانية القديمة، وتُعيد تعريف مفهوم السيادة الوطنية على أسس المشاركة، لا الاحتكار. فالمسألة لم تعُد متعلقة بازدواج الشرعية، بل بنزاع بين دولة تُبنى من جديد، وسلطة تحتضر ببطء، لا تملك إلا أن تتكئ على ماضٍ تجاوزته الجغرافيا والتاريخ.

ربما لا يأتي الاعتراف الدولي الكامل غدًا، لكنه آتٍ. لأن من يمتلك الأرض، والشعب، والمؤسسة، والرؤية، لا يُمكن أن يُقصى طويلًا من طاولة السياسة الدولية. فالأمم المتحدة لا تتعامل مع الأوهام، بل مع من يصنعون الوقائع. وحكومة “تأسيس” تصنع واقعًا جديدًا، لا يمكن تجاهله، لا قانونيًا ولا أخلاقيًا.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.