المشهد السياسي والعسكري الحالي في السودان، خصوصًا في دارفور، يعكس مأزقًا بنيويًا عميقًا يكشف حقيقة الدولة المركزية وهشاشتها أمام أي صراع يهدد بنيتها الداخلية. عجز الجيش السوداني عن خوض حرب جادة وشريفة ضد قوات تأسيس في دارفور و كردفان حتى مع وجود حلفائه من مسار دارفور، يمكن فهمه من خلال عدة مستويات من التحليل السياسي والعسكري والاجتماعي.
البنية العنصرية للمؤسسة العسكرية جعلت الجيش السوداني تاريخيًا مؤسسة نيليّة الطابع ترى نفسها حامية للمركز، وليس للوطن ككل. هذه العقلية تجعل الجندي القادم من الشمال النيلي غير مستعد للموت في صحارى دارفور من أجل مشروع سياسي يراه مؤقتًا أو هامشيًا، وحتى حين يرسل المركز أبناء الهامش ضمن الجيش، فإنهم يُستنزفون كوقود حرب بلا احترام ولا حماية حقيقية.
انعدام العقيدة الوطنية المشتركة عمّق المأزق؛ فقوات تحالف تأسيس يقاتلون بعقيدة وجودية يرون فيها المعركة مسألة حياة أو موت، بينما الجيش النظامي فقد منذ سنوات قدرته على استنهاض عقيدة قتالية موحدة. اليوم المعركة بالنسبة له تكتيكية لإسقاط مدينة أو تحقيق صورة انتصار سياسي، لا معركة شرف أو مشروع وطني جامع.
التجربة المريرة التي خاضها الجيش في شمال السودان بعد معارك الخرطوم والجزيرة كشفت هشاشته وعدم قدرته على الحسم، فكيف يخوض حرب استنزاف طويلة في جغرافيا دارفور الواسعة والمعقدة، حيث البيئة الاجتماعية والقبلية لا ترحب به، وخطوط إمداده مكشوفة وضعيفة؟
حلفاء مسار دارفور بدورهم مجرد أداة مؤقتة. هذه القوى، مثل بعض فصائل اتفاق جوبا، ليست شريكًا حقيقيًا للمركز بل مجرد غطاء محلي. الجيش يدرك أن ولاءهم مشروط وأنهم يخشون أن يُستخدموا ثم يُتخلّى عنهم كما حدث تاريخيًا مع أبناء الهامش الذين حاربوا لحماية الخرطوم.
قوى مسار دارفور تعيش مأزقًا وجوديًا حادًا. فهي مكروهة من أهلها بسبب اصطفافها مع المركز، وفي الوقت نفسه مرفوضة من المركز الذي لا يراها إلا أداة عسكرية مؤقتة. الخطاب الإعلامي المرتبط بالمركز يشيطنها ويصورها كميليشيات مرتزقة ومتقلبة الولاء، ما أفقدها أي رصيد سياسي وطني. وحتى داخل معسكر بورتسودان، يُنظر لقادتها كمواطنين من الدرجة الثانية يُستدعون فقط عند الحاجة كجنود أو كواجهة سياسية زائفة أمام المجتمع الدولي.
الحل الوحيد أمام هذه القوى يبدأ بإعادة التموضع سياسيًا. عليها أن تدرك أن مشروع بورتسودان لا يملك رؤية استراتيجية لوحدة السودان، وأن استمراره مرهون بالحفاظ على الامتيازات التاريخية للمركز النيلي. أي تورط في حرب ضد أهل دارفور سيجعلها ضحية مضاعفة. الانفتاح على مشروع تأسيس، أو على الأقل إعلان الحياد، قد يعيد لها بعضًا من شرعيتها المفقودة في الإقليم ويمنحها فرصة لتكون جزءًا من مشروع تحرري وطني لا يقوم على التراتبية العنصرية. كما أن تغيير خطابها الإعلامي نحو فضح عنصرية المركز وجرائم القصف العرقي، كما حدث في قصف سوق طره قبل شهرين، خطوة أساسية لاستعادة أي رصيد شعبي.
اليوم، تتكشف الحقيقة المؤلمة لقوى مسار دارفور: لقد تحولت إلى مواطن درجة ثانية داخل مشروع بورتسودان، مجرد أداة حرب تُستدعى لحماية المركز ثم تُرمى بعد انتهاء مهمتها. الخطاب العنصري الذي يشيطنهم في الإعلام الرسمي ويستبيح دماء قبائلهم بالقصف العرقي على أسواقهم ومدنهم ليس عارضًا، بل جزءًا أصيلًا من البنية الذهنية للدولة المركزية النيليّة التي لم تؤمن يومًا بوحدة السودان كخيار استراتيجي.
قوات تأسيس اليوم ليست مجرد قوة عسكرية، بل مشروع وطني يحمي سكان الهامش من أن يُذبحوا مرتين: مرة بسلاح الجيش، ومرة بخيانة الحلفاء المزيّفين. أي رهان من مسار دارفور على المركز هو رهان خاسر؛ فهم الخاسر الأكبر في لعبة السلطة، مكشوفون لأهلهم كأدوات، ومرفوضون في المركز كغرباء.
الحقيقة التي يرفض قادة مسار دارفور مواجهتها هي أن وحدة السودان لم تعد أولوية لمعسكر بورتسودان، وأن دماء الدارفوريين ستظل رخيصة ما داموا يقتلون لحمايته بدل أن يثوروا عليه. وحده تحالف تأسيس يقدم الطريق الشرفي الوحيد: تحالف يقوم على المساواة، ورفض الاستعلاء، وبناء دولة سودانية عادلة تتسع للجميع بلا درجات ولا تراتبية عنصرية.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.