لا تغيير جذري في كنف السلطة – الحزب الشيوعي وشهادة سوء السلوك الثوري

خالد كودي ، الأراضي المحررة- كاودا

في لحظة تاريخية تتطلب من كل قوى التغيير أن تتموضع بوضوح في خندق الثورة ضد دولة القمع والاستعلاء والاستعمار الداخلي، يصر الحزب الشيوعي السوداني، فرع عطبرة، على تقديم نموذج صارخ للانفصام بين الخطاب والممارسة، بين ادعاء الجذرية والخضوع العملي لسلطة الأمر الواقع في بورتسودان، التي يقودها تحالف العسكر وبقايا النظام البائد من الإسلاميين.

!! ١/ تطبيع سياسي ومالي مع حكومة انقلابية فاقدة للشرعية
في تطور خطير يكشف اتساع الفجوة بين خطاب الحزب الشيوعي السوداني وممارسته العملية، أقدم فرع الحزب بمدينة عطبرة على خطوة تمثّل تطبيعًا مباشرًا مع سلطة الانقلاب في بورتسودان، من خلال ما سُمي بـ”مبادرة خدمية” لتقديم تمويل وخبرة فنية لصالح وزارة البنى التحتية بولاية نهر النيل، وهي حكومة إقليمية تُدار بالكامل من قبل السلطة الانقلابية التي يقودها عبد الفتاح البرهان وكامل إدريس وكتائب الاسلاميين
وبحسب البيان الرسمي الصادر بتاريخ 31 يوليو 2025، فقد زار وفد من الحزب الشيوعي بعطبرة، مكوَّن من:
– د. سيد أحمد الخطيب
– الأستاذ مدني محمد عثمان
– والمهندس خبير الطاقة محمد أحمد بابكر
مقر وزارة البنى التحتية، حيث التقى الوفد بـالوزير سمير سعيد، وعرض عليه الحزب مبادرة لتمويل شبكة طاقة شمسية لتشغيل محطتي المياه في عطبرة، بحجة حل أزمة الكهرباء وتخفيف تكاليف التشغيل.
البيان لم يشر، لا من قريب ولا بعيد، إلى الطبيعة غير الشرعية للحكومة التي يتم التعامل معها، ولم يتضمّن أي موقف مبدئي يُدين الانقلاب أو يربط هذا التعاون بخطاب الثورة والتغيير، بل جاء في سياق تنسيقي أقرب إلى العمل المؤسسي المشترك بين الحزب وسلطة الأمر الواقع، وهو ما يعبّر عن سقوط مفاهيمي مزدوج: سقوط في منطق الخطاب، وسقوط في حدود الممارسة.
ما جرى في هذا اللقاء لا يمكن وصفه بـ”العمل الجماهيري” في سياق مقاومة السلطة، بل هو دعم مالي وفني لمؤسسة حكومية تعمل تحت مظلة انقلاب عسكري دموي، وهو ما يشكّل، من حيث الأثر، إسنادًا سياسيًا مباشرًا لإحدى أدوات النظام، بغض النظر عن نوايا المشاركين.
إن خطورة هذا التعاون لا تكمن فقط في خرقه الواضح لأبجديات المعارضة الثورية، بل في تواطئه البنيوي مع مشروع إعادة إنتاج الهيمنة المركزية عبر استقرار مؤسسات الحكم الانقلابي، لا مواجهته أو إسقاطه. وهو تواطؤ يتم باسم “خدمة المواطنين”، بينما يتم تجاهل ملايين المواطنين الآخرين في مناطق النزاع، والذين لا يبدو أن الحزب مستعد لتقديم مبادرات مماثلة لأجلهم.

. ٢/ ازدواجية المعايير: كهرباء عطبرة أولى من دماء الهامش
في الوقت الذي تبادر فيه قيادة الحزب – بخبراتها ومهندسيها وخبرائها في الطاقة – إلى تقديم الحلول العاجلة لمشكلة كهرباء – عطبرة، لم نر للحزب أي جهد مماثل في مناطق الكارثة الإنسانية الحقيقية والتي تعني الحياة او الموت:
لم يسجل للحزب مساهمة فاعلة – بالمال أو بالخبرة أو حتى بالتصريح السياسي المنحاز– في أزمة الكوليرا التي تضرب معسكرات النزوح قي جنوب كردفان منذ شهور.
– لم يُصدر الحزب موقفًا طارئًا إزاء المجاعة التي تنخر جبل مرة وتودي بحياة الأطفال والنساء في صمت مريع
– لم يخصص الحزب ميزانياته المركزية ولا لجانه الفنية للمساهمة في إغاثة معسكرات النزوح في دارفور ولا دعم المنظمات المدنية العاملة في مناطق الحرب.
إن هذا الصمت الانتقائي والانحياز الجهوي الصارخ يؤكد أن الحزب الشيوعي، رغم خطابه الثوري، لا يزال مصرا علي الانغراس في ذهنية النخبة الشمالية المركزية الفاشلة، التي ترى في السودان “كهرباء عطبرة” لا “مجاعة جبل مرة”، وفي “البنية التحتية لنهر النيل” أولوية على “الكرامة المهدورة في معسكرات اجيري وزالنجي.

٣/ الشيوعية بلا مشروع تحرر
لقد تحوّل الحزب الشيوعي – لا سيما في مواقفه الأخيرة من تحالف “تأسيس” ومشروع السودان الجديد – إلى قوة تدّعي الجذرية لكنها ترتعد أمام استحقاقها الحقيقي: العلمانية، تقرير المصير، وتفكيك دولة الهيمنة بدا بجيشها. وهو في ممارسته هذه، لا يختلف في الجوهر عن القوى التقليدية التي يزعم معارضتها.

لا يمكن لحزب ينادي بالتغيير الجذري أن:
– يتعامل مع حكومة انقلابية مثل حكومة البرهان كما لو كانت حكومة منتخبةك
– يمدها بالمال والخبرة دون مساءلة.
– يتجاهل ساحات الجحيم الحقيقي في جبال النوبة ودارفور.
– يرفض تحالفات الهامش حين تطرح بدائل جذرية لمركز السلطة.

اخيرا: لا ثورة في كنف السلطة… ولا حياد في مواجهة القمع البنيوي
السلوك السياسي الذي أقدم عليه الحزب الشيوعي السوداني، لا سيما عبر فرعه في مدينة عطبرة، لا يعكس توجهًا ثوريًا أو تموضعًا جذريًا في مواجهة السلطة، بقدر ما يُجسد نزعة وظيفية تميل إلى الإصلاح الهامشي داخل النظام القائم بدل السعي الجاد لتفكيكه. إذ في الوقت الذي يتشدق فيه الحزب بخطاب “التغيير الجذري”، فإنه يمارس واقعيًا سياسة التكيّف مع سلطة انقلابية فاقدة للشرعية، عبر تقديم الدعم الفني والمالي لتحسين أدائها الخدمي، دون اشتراطات سياسية أو موقف مبدئي ضد بنيتها الاستبدادية.
إن هذا النمط من “العمل الجماهيري المفرغ من محتواه الثوري” ليس جديدًا في تاريخ الحركات اليسارية، بل مثّل في لحظات متعددة عبر العالم مدخلًا إلى التواطؤ والانخراط التدريجي في بنية السلطة، تحت لافتة “خدمة الشعب”. وقد سجلت تجارب عدة في أوروبا، أمريكا اللاتينية، وآسيا نماذج مشابهة، تَحوّلت فيها قوى تدّعي الثورية إلى أدوات لإعادة إنتاج النظام باسم الاستقرار أو الخدمة العامة:

من أوروبا:
– الحزب الشيوعي الفرنسي خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بعد أن كان يرفع شعار إسقاط الرأسمالية، انخرط في حكومات ائتلافية ودعم سياسات استعمارية فرنسية، خصوصًا تجاه الجزائر، بدعوى “الحفاظ على وحدة فرنسا” وخدمة الطبقة العاملة، متنازلًا بذلك عن مبدأ التضامن الأممي ومعاداة الاستعمار
– الحزب الشيوعي الإيطالي في “سنوات التسوية التاريخية” دخل في تحالف ضمني مع الديمقراطيين المسيحيين – رغم اختلاف المرجعيات – تحت ذريعة إنقاذ إيطاليا من الفوضى الاقتصادية. هذا التماهي مع السلطة أضعف مصداقيته الثورية وقاد في النهاية إلى تفككه.

من أمريكا اللاتينية:
– الحزب الشيوعي التشيلي في عهد سلفادور أليندي، ورغم البدايات الثورية، كان من أوائل القوى التي دعت إلى تهدئة المواجهة مع الجيش قبيل انقلاب بينوشيه، بدعوى الحفاظ على مؤسسات الدولة، ما أدى إلى فقدان البوصلة الثورية في لحظة فارقة.

من لبنان: حزب التقدم الاشتراكي في لبنان الذي ظل يرفع شعارات العدالة والاشتراكية، لكنه دخل في تحالفات مع أمراء الحرب ونخب الطائفية، تحت ذريعة “حماية الدروز” و”خدمة المناطق المحرومة”، ما ساهم في تثبيت البنية الطائفية لا تفكيكها

من آسيا:
– في الهند، دخل الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) في تحالفات حكومية داخل ولايات مثل كيرالا وبنغال الغربية، وركّز على تحسين الخدمات العامة دون المساس ببنية السلطة الطبقية أو مواجهة البنية الطائفية، ما أضعف دوره النضالي، وجعل خطابه الثوري مجرد إدارة محسّنة للرأسمالية المحلية.
في إندونيسيا، دعم الحزب الشيوعي الإندونيسي (PKI) – حكومة سوكارنو تحت شعار “الديمقراطية الموجهة”، وتغافل عن عسكرة الدولة وتضييق الحريات، لينتهي الأمر بمجزرة 1965 التي أبادت مئات الآلاف من مناضليه، في مشهد جسّد فداحة التسويات مع السلطة القائمة

وعليه، فإن ما يقوم به الحزب الشيوعي السوداني اليوم – حين يتعاون مع حكومة بورتسودان في مشاريع خدمية دون أي موقف مبدئي من طبيعتها الانقلابية والعنصرية – ليس مجرد خطأ تكتيكي، بل انخراط واعٍ في ترميم نظام الهيمنة القائم، ولو من بوابة “كهرباء عطبرة” و”مياه بورتسودان”
إن هذا المسار، إذا استمر، لن يقف عند حدود “العمل الخدمي”، بل سيقود، تدريجيًا، إلى انخراط فروع الحزب المختلفة في مشاريع تسويغ السلطة، بحجج ذرائعية تتكرر: خدمة المواطنين، تفادي الفراغ، الحفاظ على المؤسسات… إلخ.
وغدًا قد نرى فرع الحزب في بورتسودان يشارك بتمويل مشروع لتحلية المياه، وبعد غدٍ يسهم فرع الحزب في الجزيرة بإعادة تأهيل ترع مشروع الجزيرة، ولا يستبعد أن ينتهي الأمر بتقديم “خبرات الحزب” لدعم “المجهود الحربي” لجيش السلطة في مواجهة الثوار، تحت ذريعة “الحفاظ على وحدة البلاد.”

لا شرعية لمن يتواطأ، لا ثورية بلا انحياز للمهمشين،
ولا مستقبل لحزب يتردد في تسمية القمع باسمه، ويخشى مواجهة السلطة ومركزة الدولة والتمييز الهيكلي.

فإما أن تكونوا في صف الجماهير المضطهدة، أو تكونوا حراسًا جددًا لسجون قديمة… بثياب ماركسية.

النضال مستمر والنصر اكيد.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.