من إبداع “الغابة والصحراء” إلى شفاهة “البحر والنهر”

صلاح شعيب

مر التنظير السوداني عن الهوية في علاقتها بالبناء الوطني بمراحل فكرية، وثقافية، وأدبية، وفنية، متعددة. وظل هذا التفكير متخصباً لجدل الكينونة السودانية منذ زمان حمزة المك طمبل، وآل عشري الصديق، ومدرسة الفجر، والهاشماب، وصولاً إلى اللواء الأبيض، وما تلتها من مدرستي الغابة والصحراء، والخرطوم التشكيلية، وأبادماك، والسودانوية، والواحد، وزنجران إسماعيل عبد المعين. إذ بدت آنذاك مظاهر للتعبير الإبداعي عن الموجهات الفكرية التي تتكيء على جذور الأمل لخلق أمة سودانية موحدة. وقد ظل سؤال الهوية مطروحاً في كل التجارب الفكرية، والإبداعية، حتى خلصنا إلى زمان المقولات الشفاهية باسم مثلث حمدي، وتارةً أخرى البحر والنهر. والأخيرة تحاول الاعتماد على مفهوم التجانس العرقي في أقاليم وسط، وشرق، وشمال البلاد، لمقتضى الانكفاء على الذات التي عمّقتها العلاقات التاريخية الجينية، والثقافية، لهذه المكونات الناشئة في البحر الأحمر، ونهر النيل. هذا في مقابل رفض هذه المقولات التوحد الجاري مع الهويات الأخرى لغرب البلاد، وذلك على اعتبار أنها أنتجت حروب ضد المركز، وعطلت مسار تطوره.
ورغم أن الأطروحات السابقة عن هوية الشعوب السودانية في علاقتها بأنظمة الحكم جاءت مكتوبة سوى أن المقولات الشفاهية لفصل الشمال، والبحر والنهر، تنحو إلى التقليل من شأن الهويات الطرفية في مناطق النزاع. وكذلك تراها غير جديرة بالتوائم الإنساني مع القوميات التي قامت عليها جذور تكوين ثقافة السودان الحالي، والمستندة على جذر الثقافة العربية، والإسلامية في تماسها مع الأفريقية، لا غير.
إذا نقينا هذه الأطروحات الشفاهية لانفصاليي أبناء شمال السودان القائمة على الكلام – أكثر من كونها تعتمد تنظيراً مكتوباً – من سخائم السخرية بالمكونات، والمساقات الثقافية الأخرى في القطر، فإن مضمونها في أحسن الأحوال هو العمل الضروري لمواطني البحر الأحمر، ونهر النيل، وشمال كردفان، على الكفر بدولة السودان الحالية لخلق دولة جديدة لشعوب هذه المناطق، تلك التي تدافع، عنهم في محاولة للاستفادة من هذا التجانس المجتمعي لعرب السودان، مشمولين بقوميات نوبية، وبيجاوية، والتي انصهرت مع العرب الوافدين إلى السودان، وشكلت مزيجاً اجتماعياً قام بعبء وراثة دولة ما بعد الاستعمار.
ما سبق محاولات منظري البحر والنهر، أو انفصال شمال، ووسط، السودان عن بقية أجزاء القطر، في هذا المنحى، هو أطروحة مثلث حمدي التي لم يضطلع د. عبد الرحيم حمدي بتشريحها، معتمداً فقط التعبير عنها كورقة تنموية اقتصادية إستراتيجية قدمها لسلطة الإنقاذ، والتي تشمل مصالح مثلث “مدني – دنقلا – سنار”، اتقاءً لإمكانية ذهاب بقية مناطق القطر إلى تكوين دويلات تخصها في خاتم ديربي المنافسات السياسية وسط مناطق البلاد المتعددة.
شفاهية منظري انفصال الشمال، أو البحر والنهر، في التعبير عن شؤون أهلهم الأقربين من حيث الصلة الجينية هي المقابل الموضوعي للسياسة المطلبية التي اعتمدها بعض أبناء أطراف السودان سلمياً في المرة الأولى لتحقيق التوازن في العدل الاجتماعي، والثقافي، ثم لاحقاً بدأ كفاحهم المسلح ضد الخرطوم. وهؤلاء الانفصاليون الشفاهيون في خطابهم السياسي يزيدون لطرحهم التحقير بقوميات غرب السودان المتمردة، وبأنهم هم “الرائعون” – كمصطلح تم اجترحه كبديل لكلمة العبيد – ولذلك لا يستحقون من العناصر العربية غير النبذ عن دولتهم الجديدة التي تضم عناصر مثال من البشر الذين يشتركون مع خصائص الجنس الآري في الأفضلية، أي أن هؤلاء المنتمين لدولة الشمال الانفصالية، أو البحر والنهر، يرتقون اليوم كمجموعة عرقية متجانسة تحظى بمراتب عليا من الطهر البشري المفقود لدى قاطني دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان.
-٢-
خلافا للأصوليين الدينيين الذين يعتمدون الإسلام كقاسم مشترك لتوحد ما تبقى من شعوب السودان سياسياً، يعود بنا منظرو فصل الشمال، والوسط، والبحر الأحمر، وشمال كردفان، الى دائرة التوحد الضيقة التي تضم أبناء العمومة، مضافاً إليهم العناصر الزنجية الأصل مثل المحس، والحلفاويين، والدناقلة، المجاورة. ذلك بحسب أن هذه الآصرة المناطقية من شأنها إقامة دولة نموذج إزاء دولة السودان القائمة الآن على التنافر القبلي، والعشائري، والأيديولوجي، والطبقي. وفي هذا الخصوص يغذي هؤلاء المبشرون بدولة لا تضم الرائعين مستمعيهم النهريين، والبحريين، المستهدفين بنماذج من شفاهة يومية تقيس مجريات الأحداث السياسية بعقلية التحليل الثقافي العرقي.
إن المطالبة بانفصال الشمال، والوسط، وشمال كردفان، عن السودان الكبير لتكوين دولة تضم أعراق هذه المناطق ليست سبة إذا جاءت وفق محاجات الهوية التي تبررها الإحساس بضرورة تقرير المصير الذي أقرته الأمم المتحدة للشعوب المضطهدة. بل إن أية مطالبات لشعوب أخرى في السودان بتقرير مصير حق حق بأي تقدير سياسي جاء. ذلك إذا انبنى على رؤى موضوعية تفيد هذه الجماعات المتعددة بتحقيق تطلعاتها في الحياة الكريمة، والعادلة، والتي لم تتوفر في الدولة القطرية، أو تم غمط هذه التطلعات الأقوامبة بعنف الشبكة الاجتماعية الحاكمة في مركز السلطة.
ولكن الخطاب الشمالي الانفصالي، وهو يقيم حجته التي يمكن الحوار معها، يتجاوز هذا الطلب السياسي، ليستخدم مضامين من خطاب الكراهية المتبادل، وعنف الدولة الحالية، لسحق حواضن المجموعات المناطقية المتمردة على الدولة، سواء التي تنازلها في الحرب، أو التي تتعاون مع البرهان في حربه ضد الدعم السريع.
لقد لاحظنا أن هذا الخطاب الشمالي الانفصالي ولد بالمقابل تجييشا لصالح ما يسميهم حواضن الدعم السريع التي يجب أن تصير شواءً بالبراميل المتفجرة التي يقذف بها سلاح الجو السوداني في كبكابية، والكومة، ومليط، ودبة نايرة. وهكذا وجد الدعم السريع بهذا الخطاب العرقي المضاد له شحذاً قبلياً مناطقياً يعينه بأسرع، وأفضل، ما يمكن في معركته ضد الجيش،. ومن ناحية أخرى ولد هذا خطاب الكراهية الشمالي لهولاء الانفصاليين الشفاهيين غضباً لدى حواضن الجماعات العرقية التي تناصر الدولة المركزية، وكذلك عند المثقفين المحايدين في صراع الهامش والمركز. وبهذه النتيجة نشأت خطابات أخرى في مناطق النزاع كرد فعل لهذا التحقير العرقي لتنشط من ناحية خطاب المركز والهامش، وتستدل هذه الخطابات رجاحة تنظيرها هنا من ناحية أخرى على مقولات الانفصاليين الشماليين المستندة على الحضور القوي لأبنائهم في الفعل السياسي المركزي، وكذلك على توجهات الدولة في سن سياسات اثناء الحرب توكّد ضمنيا على وقوع الفصل المناطقي بين الشعوب التي يدافع عنها الانفصاليون وبين شعوب مناطق النزاع، والتي تعرض بعض أفرادها بعد دحر الدعم السريع من الشمال والوسط إلى التمييز العنصري.
-٣-
في عصر ينزع إلى تجاوز – إن لم يكن تحطيم – الفوارق الإثنية، والأيديولوجية، والدينية، والثقافية، لصالح بناء حضارة إنسانية جديدة تستوعب كل منتجات حضارات العالم القديمة، والوسيطة، والعصرية، ينزع بالتوازي مع خطاب الانفصال الشمالي عن بقية أجزاء القطر إلى العودة إلى العشائرية العربية المتسودنة أفريقياً بوصفها سلالة جينية ذات تفوق أعلى قيمةً، وجنابا علياً، وجمالاً في ملامح الوجه مقارنة بالسلالات السودانية المالكة لأرض السودان قبل وفود العرب إليها. والأكثر من ذلك أن الخطاب الانفصالي الشمالي الساخر من إفريقية ملامح اللون، والأنف، ولهج اللسان للعربية الوافدة يتجاوز كونه عنصرياً، أو استعلائياً، ليتمظهر بأنه خطاب هتلري جديد، وذلك لأنه يعيد مفاهيم تفوق جينات على أخرى في ما خص عطائها العقلاني، ومساهمتها الحضارية، وقدرتها على النبوغ. ولو أن دعاة فكرة دولة البحر والنهر يسخرون من عربية بعض قبائل دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق، فماذا يبقون من قدراتهم الساخرة عن عربية البجاويين، والنوبيين، الذين يشكلون عنصرا أساسياً لدولتهم المتخيلة.
وللأسف وجدنا أن المقابل لهذا الخطاب الشمالي يواجه بخطاب آخر مضاد في ذات الاتجاه، إذ يستعير ذات النبرة التحقيرية ليحط من شعوب في الوسط النيلي بوصفها اصرة قبلية تفكر بطريقة واحدة دون إدراك التمايزات الإيديولوجية، والمعرفية، والفقهية للمجموعة الساكنة على ضفاف البحر والنهر معاً. أي أن خطاب مؤيدين للدعم السريع يستجيب بفعله الشفاهي أيضا ليعبر عن ردات فعل نحو سخائم بشرية قللت من إنسانيتها. وبهذا المستوى يبقى هذان الخطابان حرثاً خارج التاريخ، وعاجزاً، عن فهم حقيقة التعدد الجيني، والثقافي، للسودانيين، والذي كان من الممكن أن نباهي به العرب، والأفارقة، والعالم، إذا أحسنا توظيفه في إطار من السياسات الإنمائية المهتمة بإعلاء قيمة العدل، والشفافية، والتنوير.
سيظل السؤال قائماً عن قرب، أو ابتعاد، منظرو خطاب الانفصال الشمالي من المعرفة بقدم الإنسان السوداني الحالي، والذي لم يبداً تاريخه فقط مع قيام السلطنة الزرقاء كما دلت الحفريات الأركيولوجية، واللسانية، والتاريخية، والجينية، على عراقة سكان معظم البلاد. ولكن على كل حال يحتاج الانفصاليون الشماليون إلى إقامة حججهم على أرضيات معرفية، وليست عاطفية، والتنبه إلى أن إنسانهم المستهدف حتى يتخلى عن السودانوية متعدد في مرجعياته العقلانية، والأيدلوجية، والثقافية، وتجمعه النوازع العقلانية، والإنسانية، مع الآخرين قبل العاطفة المناطقية. ولو أن التظلمات، والمطالب التنموية من بعض السودانيين العرب – وغير العرب في الشمال، وخلاف الشمال – مفهومة، ومعقولة، ويتوجب إدراجها ضمن الهم الوطني القومي لمعالجة خلل العلاقة بين المدينة والريف، فإن أي خطاب مطلبي لأبناء الشمال بحاجة إلى التضامن القومي ما دامت المركزية السودانية قائمة على الحط من قيمة مساهمة الريف السوداني عموماً في المشاركة العادلة في صنع القرار، والصيغة المتفق عليها للإنفاق التنموي، والخطة الحكومية لعرض مظاهر الفعل الثقافي الريفي في الإعلام الحكومي. ولكن أن يتحول هذا الخطاب الشمالي للانفصاليين حدود المطالبة المشروعة بدولة لأهل البحر والنهر فقط مع إضافة موانيء الشرق وثروات شمال كردفان النفطية والزراعية والرعوية فإن الدول الجديدة لا تبنى بالعاطفة العنصرية فحسب، وإنما على قوة حجة خطاب الداعين إليها وفق اعتبارات عقلانية، وإنسانيّة، موضوعية.
إذا كانت الغابة والصحراء – مثالاً – ربطت تنظيرها النثري عن هوية سكان البلاد – وما يناسبهم من نظام سياسي – بإبداعات شعرية تمثلت في دواوين “العودة إلى سنار” للدكتور محمد عبد الحي، و”أمتي” للأستاذ محمد المكي إبراهيم، فما الذي يمكن ان يردف به منظرو الهوية الشمالية كلامهم من إبداع ليكملون به صورة التنظير الشفاهي حول دولتهم الافتراضية في سبيل حمل الشماليين على التعلق بآمال بلوغ غاية التحرر من بقية أجزاء السودان. والحقيقة أنه لم يكن إبداع خطابات المدارس الفكرية التي اشتغلت على خطاب جامع للهوية قاصراً على إبداع مدرسة الغابة والصحراء، فمعظم منظري الهوية المنتمين لتلك المدارس الفكرية قد عبروا شعراً، ومسرحاً، وغناءً، ورسماً، وتلحيناً، لتدعيم مقولاتهم النثرية حول ما ينبغي أن يكون عليه واقع هوية الدولة السودانية.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.