الصــحة أولويـــة حكـــومـــة تـــأسيــــس

أ/ســلــــيـــم مـــحـــمـــد عبــــداللـــــه

فـي زمـــن يتقـــاطع فيه الواقع مع التحديات، ويقف المواطن السوداني عند مفترق طرق بين إرث ثقيل من الإهمال الصحي وتطلعات متجددة لحياة أفضل، يبرز المشهد الصحي اليوم كإحدى أهم أولويات الدولة والمجتمع على السواء. إن الصحة لم تعد مجرد قطاع خدمي يُذكر في الموازنات السنوية أو بنداً هامشياً في خطط التنمية، بل أصبحت قضية وجود وكرامة وإنسانية، إذ لا يمكن الحديث عن بناء وطن أو نهضة مجتمع في غياب إنسان سليم قادر على العطاء والإنتاج

لقـــد دفـــع المــــواطـــن الســــوداني عبر عقود مضت فاتورة الإهمال الصحي بكل مرارتها، حيث تفشى المرض، وغابت الوقاية، وتراجعت التوعية، حتى تحولت الأوبئة إلى شبح يومي يطارد الأسر في الحضر والريف. غير أن اجتماع نيالا الأخير، برئاسة وزير الصحة الاتحادي البروفيسور علاء الدين عوض الله نقد، وبمشاركة إدارة الطب الوقائي بولاية جنوب دارفور، وحضور نخبة من الفنانين والمبدعين والمجتمع المدني، جاء ليعلن عن تحول استراتيجي يعيد الاعتبار للطب الوقائي بوصفه درع الحياة وخط الدفاع الأول

هـــذا اللــــقاء لم يكــــن مجـــرد جلـــسة رسمــــية، بل شكل مشهداً نوعياً يؤسس لعقلية جديدة، عقلية تعتبر أن الصحة ليست امتيازاً بل حق أصيل، وأن المواطن ليس مجرد متلقٍ بل شريك أساسي في بناء منظومة وقائية تحميه وتؤسس لمستقبل أكثر أمناً وعدلاً

الـــصحة بيـــن الأمـــس والــــيوم عقليـــة تــؤســس وأخـــرى أهملــــت

نيــــــالا – عاصــــمـــة تــأســــيس

انعقـــد بمـــدينـــة نيــــالا، عاصمة تأسيــــس، اجتــــماع رفيع المســــتوى برئاسة وزير الصحة الاتحادي البروفيسور علاء الدين عوض الله نقد، وبمشاركة إدارة الطب الوقائي بوزارة الصحة ولاية جنوب دارفور، وحضور لافت لرموز المجتمع المدني من فنانين ومبدعين وقوى مؤثرة. الاجتماع جاء ليضع النقاط على الحروف في مشهد صحي ظل لسنوات أسير الإهمال، وليعلن بوضوح أن الوقاية لم تعد خياراً ثانوياً، بل رهاناً استراتيجياً على حياة المواطن ومستقبل الوطن.

فــــاتــــورة الإهمــــــــال التــــــي أثــقلــــت كاهــــل المـــــواطــــن

فـــي كـــلمــــته، أكــــد الـــوزيـــر أن المواطن السوداني ظل طيلة العقود الماضية يسدد أقساط فاتورة الإهمال الصحي، إذ تراجعت الأولويات، وأُهملت الوقاية، فكانت النتيجة تفشي الأمراض المزمنة والفتاكة: السرطان، السكري، الضغط، أمراض الكلى والقلب، إلى جانب الأوبئة المتكررة كالملاريا والتيفوئيد. وأضاف قائلاً:::

اليـــوم نحـــن أمــام عقلـــية تأسيسية جديدة، عقلية تنطلق من الإنسان وإليه، لتعيد الاعتبار للطب الوقائي باعتباره الركيزة الأساسية لحماية الحياة

المـــجتـــمع المـــدني….. صــــوت الضـــمير وشـــريـــك الـــرسالــــة

الحـــضور اللافــــت للفـــــنانين والـــــمبدعــــين جسّـــد قنـــاعـــة راسخة بأن الفن والثقافة ليسا ترفاً، بل سلاحاً مؤثراً في معركة الوعي. أحد المبدعين المشاركين شدد قائلاً:

الفن حين يحمل رسالة صحية، يصبح صوت الضمير، ويصل إلى كل بيت وزقاق وقرية بلا حواجز

هـــذا الـــدور يفـــتح البـــاب أمــــام أدوات جديدة لتغيير السلوكيات الخاطئة، وتحويل التوعية من خطاب رسمي جامد إلى حراك مجتمعي نابض.

ابــتكار أدوات جديـــدة للــــوعي الـــــصحي

كـمـــا تحدثـــت الـــدكتــــورة نضــــال سعيـــد الصـــوفـــي، مـــدير إدارة الـــطب الـــوقــــائــي بولاية جنوب دارفور، أكدت أن الاجتماع مثل منعطفاً حاسماً، قائلة:

نــحن بصـــدد ابتـــكار أدوات ووسائـــل حديـــثة لنـــشر الــوعي الــصحي، عبر المسرح، والإعلام، والأنشطة التعليمية، بهدف تغيير السلوكيات والعادات التي ساهمت في استفحال الأمراض

وشـــددت على أن المجــــتمع المــــدني شـــريـــك أصيل فـــي هـــذه المهــــمة، وأن إدماج الفئات المؤثرة في نشر الثقافة الصحية سيحدث أثراً ملموساً على المدى القريب والبعيد.

العقــــلية الــــتدميــــريــــة مــــقابل الـــعقــــــلية التأسيـــــسية

أحـــد أبـــرز مــــحاور النــــقاش كان الــــمقارنة بيــــن ما ســــماه المـــــشاركــــون بـ {العـــــــقليــة التــــدمــــيريــــة} للحكومات السابقة، التي تعاملت مع صحة المواطن كسلعة للاستثمار والربح، وبين {العــــقلـــية التـــأسيـــــسية} الراهنة، التي وضعت المواطن في قلب السياسات الصحية. ففي الماضي، كانت الدولة تنفق بسخاء على العلاج في الداخل والخارج، فيما ظلت ميزانيات الوقاية شحيحة. أما اليوم، فإن المعادلة انقلبت، لتصبح الوقاية استثماراً في المستقبل، يقي المواطن الأمراض، ويوفر للدولة فاتــورة الــــــدواء والـــــعلاج.

الـــصـــحة:::::: قضــــية إنتـــــاج وتنمــــــية

الـــــوزير شــــدد فــــي خــــتام الاجتـــــماع علـــــى أن الصحة لم تعد مجرد خدمة تقدمها المؤسسات الطبية، بل أصبحت بنية تحتية للتنمية المستدامة. فالمجتمع السليم كما أوضح هو المجتمع القادر على الإنتاج، وعلى خفض نسب الوفيات، وتقليل الإنفاق المالي، وزيادة كفاءة الإنسان كطاقة حيـــة للبنــــاء والعـــــطاء

وقـــــال:::
حـــين نستـــــثمر في الـــوقايــــة، فإننا نؤسس لمستقبل أكثر أمناً وعدلاً، ونبني قاعدة بشرية قادرة على مواجهة تحديات العصر

ميــــلاد مـــرحــــلة جـــديـــدة فـــي تأســـيس

الاجـــتماع خــــرج برســــالة مــوحـــــدة: أن الصحة مسؤولية جماعية، وأن الوقاية هي خط الدفاع الأول، وأن المواطن لم يعد ضحية للإهمال، بل شريك في صناعة الأمل

لـــم يكن هـــذا اللقـــــاء حـــدثاً عـــابراً، بل كان بمــــثابة إعلان عن ميلاد مرحلة جديدة، تتجاوز عقلية الأمس المثقلة بالإهمال والصفقات، لتؤسس لعقلية تجعل من الصحة قضية وطنية عليا

اليــوم، ومـــع إشـــراقــــة فجر حكومة تأسيس، بات واضحاً أن الفارق بين الماضي والحاضر ليس مجرد تفاصيل، بل هو انتقال جوهري من عقلية أهملت إلى عقلية تؤسس، من تدمير ممنهج إلى بناء وطنـــي، من شبح الـــــمرض إلــــى أفــــــق الأمــــل

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.