حرب السودان تحول حياة السودانيين إلى جحيم

نيروبي – عين الحقيقة

حوّلت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حياة السودانيين إلى جحيم، حيث شهد المواطنون عمليات قتل واعتقالات وتهجير وتعذيب وحصار، واستخدام سياسات التجويع والاعتقالات على أساس قبلي وإقليمي، ونهب وسرقة واسعة النطاق للعاصمة وعدة مدن في الولايات، وتدمير وحشي للبنية التحتية، وهجمات على المرافق الحيوية، وبحلول 15 أبريل، يدخل السودان عامه الثالث من الحرب التي تركت البلاد في حالة من عدم اليقين وبلا مستقبل.

وطُرحت مبادرات عدة لإنهاء الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، الذي أودى بحياة عشرات الآلاف، حيث تتحدث إحصائيات عن مقتل أكثر من 190 ألف سوداني، وأخرى عن أقل، وفقدان الآلاف، ونزوح نحو 15 مليون سوداني داخليًا وخارجيًا، وتصدرت تلك المبادرات مبادرة السعودية – الأميركية في مايو 2023، وكللت بتوقيع ما عُرف بإعلان جدة، ولم يتم تنفيذه، وتلتها مبادرة تركية غير معلنة رسميًا، لكن لاحقًا أعلنت أنقرة مبادرة لجمع البرهان وحميدتي، ولم تنجح، ثم طرحت إيقاد مبادرة لم تؤتِ ثمارها بعد رفض الجيش لها.

وبعدها بقليل، خلال 2023، قدم الاتحاد الأفريقي مبادرة عبارة عن خريطة طريق لحل الصراع في السودان، لم يتعامل الطرفان معها، لتتولى إثيوبيا زمام الأمور وتطرح مبادرة في يونيو 2023، وتم الإعلان عن نية رئيس الوزراء الإثيوبي زيارة الخرطوم للتوسط لوقف النار، ولم تثمر أيضًا، وفي مارس 2024، أعلنت الجامعة العربية تلقيها مبادرة وطنية سودانية، لكنها لم تتقدم كذلك، وتلتها مبادرة قمة دول الجوار في القاهرة يوليو 2024 دون نجاح، ومن ثم تحولت الأنظار إلى مبادرة نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، في أغسطس 2024، دون أن يُلتفت إليها.

ودون أفق للحل، لم تتعامل الجهات المتقاتلة في السودان كذلك مع مبادرة حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، كما لم يتعامل الأطراف مع عدة مجموعات وائتلافات مدنية سودانية دعت لوقف القتال والتحول لمسار السلام والتفاوض، وأجرى قادة بعض الدول اتصالات مباشرة وطرح بعضهم مبادرات فردية لحل الصراع، لكن أطراف الحرب يرفضون التعامل معها، متوجهين، حسبما يعتقد المتابعون، إلى الحسم العسكري.

في المقابل، قال رئيس وزراء السودان السابق، عبد الله حمدوك، في مقال بصحيفة “فايننشال تايمز” الأسبوع الماضي، إن لا حل عسكريًا في البلاد، وإن الحرب تنتهي بإرادة سياسية، معتبرًا سيطرة الجيش مؤخرًا على القصر الرئاسي في الخرطوم، وإن كانت تُغير المشهد التكتيكي، إلا أنها لا تُغير شيئًا من الواقع الجوهري المتمثل في استحالة تحقيق أي طرف نصرًا حاسمًا دون إلحاق خسائر فادحة بالسكان المدنيين.

ويتلقى الطرفان المتحاربان اتهامات مباشرة من الأمم المتحدة والجهات المحلية بالتورط في ارتكاب مجازر عبر القصف الجوي للطيران الحربي أو التدوين العشوائي، وسجلت الحرب إحدى أكبر نسب الاعتداء على النساء والاغتصاب بيد تلك القوات، ونُفذت إعدامات ميدانية موثقة عبر تقارير دولية أو مقاطع فيديو للطرفين بعد إعادة السيطرة على منطقة ما، حيث مارس الجنود تصفيات لمواطنين تحت ذريعة التعاون مع الطرف الآخر.

وقال المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، الخميس الماضي، إنه “روّع” بالتقارير عن عمليات إعدام نُفذت خارج نطاق القضاء بحق مدنيين في الخرطوم بعد استعادة الجيش السوداني السيطرة على العاصمة في نهاية مارس، وأورد تورك في بيانه: “لقد روّعت بالتقارير الموثوقة عن عمليات إعدام نُفذت خارج نطاق القضاء بحق مدنيين في أحياء في الخرطوم للاشتباه في تعاونهم مع قوات الدعم السريع”. وفي السياق، قالت “هيومن رايتس ووتش” في تقرير حديث إن “القوات المسلحة السودانية” و”قوات الدعم السريع” والمقاتلين التابعين لهما أعدموا بإجراءات موجزة أشخاصًا أثناء احتجازهم دون محاكمة، وعذبوهم، وأساءوا معاملتهم، ومثلوا بالجثث.

ودفع أطفال السودان ثمنًا باهظًا لصراع العسكريين، بفقد أكثر من 17 مليون طفل سوداني للتعليم، وبينت تقارير دولية أن أطفال السودان فقدوا أكثر من عام دراسي بسبب القتال، بينما تحولت المدارس إلى مخيمات للاجئين، ويواجه، وفقًا لتلك التقارير، 19 مليون تلميذ سوداني الحرمان من مواصلة الدراسة، وبحسب “اليونيسيف” لم يتأثر الأطفال وحدهم بالحرب، بل تأثر المعلمون والمدارس وبنية التعليم في البلاد.

وبعد توقف الدراسة وإغلاق المدارس، توقف صرف رواتب المعلمين، وكاد قرابة نصف مليون مدرس يتحولون وأسرهم إلى “متسولين”، بعضهم هجر مهنة التعليم واختار مهنة أو حرفة بديلة، بينما لجأ آخرون إلى بلدان الجوار وقد لا يعودون، فيما دُمرت آلاف المدارس والمنشآت التعليمية، وتحولت الآلاف منها إلى ملاجئ لإيواء النازحين.

ومع دخول الحرب في السودان عامها الثالث “دون أي بوادر سلام مستدام”، حذرت وكالات أممية من حجم الأزمة وشدتها، وحثت المجتمع الدولي على اتخاذ إجراءات فورية لمنع المزيد من الدمار، وذكّر المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، يانس لاركيه، بأن اثنين من كل ثلاثة أشخاص يحتاجون إلى المساعدة في السودان، أي 30 مليون شخص، فضلًا عن نزوح أكثر من 12 مليون شخص، ومعاناة 25 مليونًا من الجوع الحاد، واحتياج 40 في المئة من السكان لمساعدات صحية عاجلة، وفي مؤتمر صحفي لوكالات الأمم المتحدة في جنيف، قال لاركيه: “يُقتل المدنيون وعمال الإغاثة دون عقاب (على تلك الأعمال). ويتفشى العنف الجنسي”، مشيرًا إلى مقتل ما لا يقل عن 84 عامل إغاثة أثناء محاولتهم تلبية الاحتياجات الإنسانية في السودان.

ينتظر العائدين إلى مناطقهم التي سيطر وحررها الجيش السوداني من قبضة قوات الدعم السريع مؤخرًا، قاتل صامت آخر. فبعد غياب عامين للكثيرين بسبب النزاع المسلح في السودان، يواجه المدنيون تحديًا جديدًا لكنه فتاك، وهو الذخائر غير المنفجرة التي تهدد سلامة النازحين العائدين إلى ديارهم، كما يقول صديق راشد، رئيس برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في السودان، ودعا راشد الأطراف المتحاربة والمجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياتهم في تطهير البلاد من هذه الذخائر وحماية أرواح المدنيين.

وتظل قضية المفقودين تؤرق السودانيين، حيث لا توجد أعداد واضحة أو مصير معروف، فبينما قدرت المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات العدد بنحو خمسين ألف مفقود، وثّقت منظمات حقوقية سودانية محلية ما لا يقل عن 3,177 حالة، بينهم أكثر من 500 امرأة و300 طفل، ووثقت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان مجموعة من انتهاكات حقوق الإنسان المروعة التي ارتكبتها كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ودعت إلى إجراء تحقيقات في الانتهاكات، وتقديم الجناة إلى العدالة.

ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منذ منتصف أبريل 2023، حربًا خلفت 29,683 قتيلًا، وفق موقع (ACLED)، وهي منظمة عالمية غير حكومية متخصصة في جمع بيانات النزاعات المفصلة، وبحسب إحصائية صادرة عن منظمة الهجرة الدولية في 29 أكتوبر الماضي، بلغ إجمالي الفارين بسبب الحرب في السودان أكثر من 14 مليون شخص، هم 11 مليون نازح داخل البلاد، و3.1 مليون شخص عبروا الحدود إلى دول مجاورة، رغم المواقف الضبابية لأطراف الحرب وإعلان تمسكها بالحسم العسكري، يأمل السودانيون في تدخل حاسم لوقف الحرب في بلادهم وإنهائها بغير رجعة، وذلك عبر بناء نظام ديمقراطي مدني.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.