أعاد سقوط مدينتي بارا والفاشر، تباعًا، في ولايتي كردفان ودارفور إلى يد قوات الدعم السريع خلال أيام قليلة، خلط الأوراق السياسية والعسكرية في البلاد، وفتح باب التساؤلات حول مستقبل الحرب الدائرة منذ أكثر من عامين ونصف، ومآلات ميزان القوى بين الجيش والدعم السريع، في وقت تزامن فيه هذا التطور مع اتصالات غير مباشرة بين الطرفين برعاية إقليمية ودولية.
محلل سياسي: الهزيمتين المتتاليتين اللتين مُني بهما الجيش أثارتا جدلاً واسعاً على المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، وسط تبادلٍ للاتهامات بين قيادات القوات المشتركة الموالية لحركتي مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم من جهة، والجيش
ففي تطور وُصف بأنه من أكبر الانتكاسات الميدانية للجيش والقوات المشتركة منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، سيطرت قوات الدعم السريع أولاً على مدينة بارا بولاية شمال كردفان، بعد معركة عنيفة استمرت لساعات، انتهت بهزيمة الجيش والمليشيات المتحالفة معه.. ولم تكد تمر أقل من أسبوع حتى أعلنت الدعم السريع السيطرة الكاملة على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، آخر معاقل الجيش والقوات المشتركة في الإقليم.
وفي السياق، طرح الكاتب الصحفي صلاح شعيب في مقال أمس تساؤلات لافتة حول تزامن سقوط مدينتي بارا والفاشر مع الحراك السياسي والدبلوماسي الجاري بين الجيش وقوات الدعم السريع، في وقت وصف فيه مسؤولو سلطة بورتسودان ما جرى بأنه انسحاب تكتيكي من جانب القوات المسلحة.
وقال شعيب في مقال تحليلي إن الهزيمتين المتتاليتين اللتين مُني بهما الجيش أثارتا جدلاً واسعاً على المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، وسط تبادلٍ للاتهامات بين قيادات القوات المشتركة الموالية لحركتي مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم من جهة، والجيش من جهة أخرى. واستدرك شعيب أن مؤيدي القوات المشتركة يرون أنهم حرروا بارا وسلموها للجيش بعد تضحيات كبيرة، بينما انهارت القوات النظامية لاحقاً، مما مكن الدعم السريع من السيطرة على المدينة بسهولة.
اتهم بعض أنصار الجيش الحركات الموقعة على اتفاق جوبا بأنها “خذلته” في المعارك الأخيرة، في مشهد عكس تصدع التحالفات التي تشكلت خلال الحرب.
وفي المقابل، اتهم بعض أنصار الجيش الحركات الموقعة على اتفاق جوبا بأنها “خذلته” في المعارك الأخيرة، في مشهد عكس تصدع التحالفات التي تشكلت خلال الحرب.
وأشار شعيب إلى أن سقوط الفاشر بعد أيام من سقوط بارا أعاد النقاش مجدداً حول ما إذا كانت هذه التطورات رسائل سياسية موجهة للبرهان من قوى داخل معسكره، خصوصاً بعد ما تردد عن استبعاد فصائل القوات المشتركة من مشاورات واشنطن التي تقودها اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، بريطانيا، والتي قد تفضي إلى تسوية سياسية جديدة.
وأوضح الكاتب أن بعض المحللين يعتقدون أن سقوط المدينتين يمثل رسالة من الحركات المسلحة المشاركة في القتال بأن لديها أوراق ضغط يمكن استخدامها متى ما تم تجاهلها في ترتيبات ما بعد الحرب. بينما يرى آخرون أن عناصر داخل الجيش محسوبة على الحركة الإسلامية هي من رتبت الانسحاب من المدينتين لإحراج القيادة العامة وإظهار رفضها لاتجاهات التسوية التي يُشاع أنها تستهدف إقصاء المؤتمر الوطني من المرحلة الانتقالية.
وأكد شعيب أن غموض موقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان من الإسلاميين، وتواصله المنفرد مع الرباعية في واشنطن، أثار غضب قيادات المؤتمر الوطني التي طالبت بسحب الوفد المفاوض، بحسب ما نقلته مصادر صحفية.
ويرى الكاتب أن ما يجري قد لا يكون مجرد تطورات ميدانية تقليدية، بل ربما انعكاس لتقاطعات سياسية عميقة داخل معسكر الجيش وحلفائه، أو نتيجة تفوق ميداني جديد لقوات الدعم السريع بدعم خارجي، خاصة في ظل أحاديث عن وصول أسلحة نوعية ساهمت في ترجيح كفة القتال.
واستطرد شعيب في مقاله بالتساؤل: هل يستمر التآمر المفترض ضد البرهان عبر انسحابات متكررة من حلفائه؟ أم أن ما حدث رسالة من أطراف خارجية تمارس ضغوطاً لإجباره على قبول تسوية ترعاها الرباعية الدولية؟ مضيفاً أن سقوط بارا والفاشر” يذكر بما حدث في المدن السورية قبيل سقوط دمشق، ليخلص إلى أن الأيام القادمة ستكشف الحقيقة المجردة.
احتفت قوات الدعم السريع بتحرير المدينتين من قبضة النظام القديم وحلفائه، وأكدت في بيانات متعاقبة أن قواتها تتعامل مع المواطنين في المناطق الجديدة بروح المسؤولية الوطنية
وفيما ساد الحزن والارتباك صفوف أنصار الجيش والمشتركة ودرع السودان بعد الهزيمتين المتتاليتين، حاولت السلطة القائمة في بورتسودان التقليل من حجم الخسارة، ووصفت ما جرى بأنه انسحاب تكتيكي يهدف إلى إعادة التموضع وترتيب الصفوف، وهو تصريح أثار موجة من السخرية والتشكيك على منصات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبره كثيرون تغطية على انهيار ميداني واسع لمواقع الجيش في الإقليمين الحيويين.
من جهتها، احتفت قوات الدعم السريع بتحرير المدينتين من قبضة النظام القديم وحلفائه، وأكدت في بيانات متعاقبة أن قواتها تتعامل مع المواطنين في المناطق الجديدة بروح المسؤولية الوطنية، مشيرة إلى أنها تسعى إلى تأمين المرافق الحيوية وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين.
تكتسب الفاشر أهمية خاصة، إذ تعد المقر التاريخي والإرثي لإقليم دارفور، ومنطلق العديد من الحركات المسلحة منذ اندلاع الصراع في الإقليم في مطلع 2003.. كما أنها كانت المركز الرئيسي للقيادة المشتركة التي تضم الجيش وعددًا من الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام.
إلي ذلك، تعني سيطرة الدعم السريع علي مدينة الفاشر عمليًا انهيار آخر خطوط الدفاع الحكومية في إقليم دارفور، ويفتح الطريق أمام الدعم السريع لبسط سيطرته على الإقليم بأكمله، وربما التقدم و السيطرة علي ما تبقت من مناطق في إقليم كردفان ومن ثم العودة إلي تحرير الخرطوم متجددًا.
وفي هذا الصدد، يرى مراقبون أن هزيمة الفاشر تمثل نقطة تحول حاسمة في مسار الحرب، إذ إنها لم تعد مجرد معركة على الأرض، بل أصبحت معركة رمزية ومعنوية، أثبتت أن الكفة تميل لصالح الدعم السريع ميدانيًا، على الرغم من الضغوط الأمريكية التي تطالبه بوقف العمليات العسكرية لوقف اطلاق النار لمدة ثلاث أو ستة أشهر.
سياسيًا، يأتي هذا التحول بينما تجري في الكواليس محادثات غير مباشرة بين الجيش والدعم السريع، بوساطة من الآلية الرباعية، ممثلة في الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات. ويرى محللون أن الانتصارات الميدانية للدعم السريع قد تمنحه ورقة ضغط قوية على طاولة التفاوض، في حين يجد الجيش نفسه في موقف دفاعي صعب، سواء أمام حلفائه أو القوى السياسية المدنية التي تطالب بوقف الحرب والعودة إلى المسار الديمقراطي.
مراقبون: سقوط الفاشر وبارا قد يدفع الجيش لإعادة حساباته، وربما القبول بخيارات كان يرفضها سابقًا، خصوصًا في ظل تراجع قدرته اللوجستية وتشتت قواته في جبهات متعددة
ويشير مراقبون إلى أن سقوط الفاشر وبارا قد يدفع الجيش لإعادة حساباته، وربما القبول بخيارات كان يرفضها سابقًا، خصوصًا في ظل تراجع قدرته اللوجستية وتشتت قواته في جبهات متعددة. على الصعيد الإنساني، أدت المعارك الأخيرة إلى نزوح آلاف المدنيين من الفاشر وبارا إلى مناطق مجاورة، في ظروف بالغة القسوة.
وفي الواقع أفادت تقارير السلطات المحلية أن مئات الأسر وصلت إلى منطقة طويلة بشمال دارفور خلال الأيام الماضية، فيما حذرت منظمات الإغاثة من كارثة إنسانية وشيكة نتيجة انقطاع الإمدادات الغذائية والطبية.
كما أثار قرار وزارة الخارجية في حكومة بورتسودان بطرد مديرة مكتب برنامج الغذاء العالمي توترًا إضافيًا مع المجتمع الدولي، في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى دعمٍ إنساني عاجل في كردفان ودارفور.
وبينما يحاول الطرفان تبرير مواقفهما الميدانية والسياسية، يبدو أن الحرب في السودان دخلت مرحلة جديدة، يتراجع فيها الحل العسكري لصالح توازنات جديدة تفرضها الوقائع على الأرض.. ويجمع المحللون على أن سقوط بارا والفاشر ليس مجرد انتصار عسكري عابر، بل هو تطور مفصلي يعيد رسم خريطة الصراع، ويضع مستقبل البلاد أمام مفترق طرقٍ جديد، بين سلام يفرضه الواقع أو استمرار حربٍ تستنزف الجميع.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.