حطموا عقلية النخب وتبنّوا دولة الشعب

بقلم: نجم الدين دريسة

الحرب التي فرضتها جماعة الإخوان المسلمين بغرض الإجهاز على الثورة والعودة إلى السلطة على جماجم الشعب السوداني، خلقت واقعًا مأساويًا ومعقّدًا، لا سيما وأن السودان دولة ظلت تعاني من هشاشة في البناء السياسي، وسيولة اجتماعية، وثقافية، وأمنية، ومؤسساتية، يصعب معها أن توصف بأنها دولة، بالنظر إلى ظروف نشأتها وارتباطاتها بالمستعمر، وارتهانها للدولة المصرية، والدور المدمّر الذي لعبته قوة دفاع السودان الموروثة عن المستعمر، والتي تحوّلت فيما بعد إلى ما يُعرف بـ”الجيش”، الذي احتكر العنف ومارسه ضد شعوب وقوميات ما يُعرف بـ”الدولة السودانية”.

علاوة على المأزق السياسي الذي أُدخل فيه الوطن، حيث بات ما يُطلق عليه بـ”الجيش السوداني” العقبة الكؤود أمام خيارات الشعوب السودانية، وظل مخلب قطٍّ للتدخل المصري في السودان، بينما عملت مصر بالتواطؤ مع هذا الجيش على نهب الموارد وقمع شعوب الهامش، التي ظلت ترفض الهيمنة المركزية التي مورست عبر وكلاء الاستعمار من عسكريين ومدنيين. فصارت الأزمة السياسية ماضية، وحالة عدم الاستقرار هي النتيجة الطبيعية لهذه المليشيا الشائهة المعطوبة، التي تفتقر لأي قيم وطنية أو عقيدة قتالية، ومرتهنة للمخابرات المصرية، صانعة الأزمات والصراعات في السودان بحجّة “أمنها القومي”.

تمّ خلق مسخٍ مشوَّهٍ اسمه “دولة السودان”، وهي دولة لا تعبّر على الإطلاق عن مصالح أهلها وشعوبها، بل تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تمارس البطش والعنف الممنهج ضد مكونات اجتماعية تمثل أكثر من ثلثي سكانها، رغم الموارد والمقدرات الهائلة التي يزخر بها هذا القطر، حتى صار يُوصم بـ”الدولة المصابة بلعنة الموارد”، فهي من أغنى دول العالم من حيث الثروات، ولكنها تعاني من فقر فكري ومفاهيمي وتآمر تاريخي أوردها موارد الهلاك.

إزاء هذا الواقع الكارثي، كيف يتسنى لهذه الشعوب أن تنتفض انتفاضة حقيقية تحمل ملامح التنوع والتعدد الثقافي، وليس ثورات تمارس المساومات السطحية القشرية، دونما إيجاد حل جذري للأزمة، أو معالجة جذورها والتوافق والتراضي على تأسيس دولة المواطنة؟ وهنا يبرز سؤال جوهري: ما هي السبل التي من خلالها يمكننا معالجة الظلامات والانتهاكات في حق هذه الشعوب؟ وأي نوع من العدالة الانتقالية يمكننا ابتداعه للخلاص من الأثقال والأحمال والأعباء التاريخية؟

سقتُ تلك التقدمة وفي ذهني تساؤل: ما هو المطلوب للانتقال من هذا الواقع البئيس؟ وكيف ننتقل إلى تأسيس وبناء دولة تقوم على أسس العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وتجاوز المساومات السياسية، التي أصبحت في حد ذاتها أزمة تُضاف إلى أزمات السودان الحقيقية الدامغة؟ إذ أن هناك اختلالات بنيوية تتعلق بالمؤسسات والمناهج التي أنتجت هذه العقلية، علاوة على غسل الأدمغة، والأحكام الجاهزة، وثقافة الارتباط بمفهوم الدولة، الذي صاغته مؤسسات تعليمية مصنوعة بعناية فائقة لخلق انتماءات لا تقوم على أي قيم معرفية أو أخلاقية.

فالذي يمجّد هذا الجيش القبيح بأشعار وألحان يردّدها ذات الشعب المقهور، بعبارات من شاكلة: “الحارس مالنا ودمنا جيشنا جيش الهنا”، من يسمع هذه الأهزوجة ربما يُدهش، لأن جيشنا لم يكن كذلك، بل هو السارق مالنا، وسافك دمنا. أليس هو الجيش الذي ظل لسبعة عقود من الزمان يقتل الشعوب، وينتهك الحرمات، ويسرق الموارد، ويصنع المليشيات لتقاتل نيابة عنه، ويمارس الارتهان للخارج؟ أليس هو الجيش الذي ظل عرضة للاختراق والاختطاف من قبل الأحزاب الإيديولوجية والعقائدية؟ أليس هو الجيش الذي اختطفته جماعات الهوس الديني منذ تسعينيات القرن المنصرم؟ أليس هو “جيش البازنقر” الذي جلّ قياداته العليا تنحدر من مناطق وإثنيات معروفة، هم أصحاب الامتيازات الذين يرفضون التغيير، لذا تجدهم في ألف شكل ولون، يمارسون الحالة الحربائية، أو قل الزئبقية، لخدمة مصالحهم؟

أصحاب الامتيازات، صحيح أن هناك نسبة كبيرة منهم من أبناء الشمال النيلي، لكن هناك مجموعات من مناطق السودان المختلفة تماهت مع الأوليغارشية، مما أدى إلى ما يُعرف بالترميز التضليلي لإضفاء صبغة قومية للدولة، ولكن الأمر لا يعدو كونه ذرًّا للرماد في العيون.

هذه حقائق تاريخية معلومة لكل من ألقى السمع وهو شهيد. لكن حرب أبريل عرّت زيف من يُسمّون أنفسهم بالنخب، ووضعتنا أمام حقيقة دامغة: أن سودان ما بعد الاستقلال صُنع فقط لتحقيق مصالح فئات محددة احتكرت السلطة والثروة والقرار السياسي، واستمرأت تهميش طيف عريض من الشعوب والقوميات، ولا زالت تسعى للاستمرار على ذات النهج البغيض، عبر العنف الممنهج، وصناعة الفتن، وخلق الصراعات في مناطق محددة من السودان.

وبالتالي، يصعب جدًا الوصول إلى تسوية مع هذه النخب التي أدمنت الفشل، وظل سجلها ينضح بنقض المواثيق والعهود، وليست لديها أدنى إحساس بالمسؤولية تجاه الشعوب الأخرى، بل تفترض أنها لا تستحق الحياة، فحاصرتها لسبعة عقود بالموت، والقتل، والحرمان من كل الحقوق بشكل ممنهج، بالتآمر مع مصر الرسمية.

هذه التعقيدات تُعطي الحرب مشروعية أكبر، رغم فظائعها وتداعياتها السالبة، لتحطيم مليشيات “البازنقر” التي ظلّت تحتكر العنف وتمارسه ضد الشعوب المقهورة، ووضع حد لمؤسسات ما بعد الاستعمار، وهزيمة الذهنية التي ظلّت تنتج خطابات العنف والعنصرية والكراهية، وأن يتم تأسيس وبناء سودان جديد على أنقاض الدولة الموروثة عن الاحتلال.

ربما يرى البعض في هذه الرؤية تطرفًا، ولكن عقلية دولة 1956، القائمة على المركزية القابضة والاستحواذ على السلطة والثروة، وشدّ الأطراف بإشعال الحروب لاستمرار الهيمنة أو فرض الانفصال على أي مجموعات تسعى لتحقيق أجندة السلام والعدالة، لا يمكن أن تُنتج سوى الفشل والدمار.

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.