صرخات مكتومة في قاعات الدراسة

ومشافي الألم ... أين الضمير؟

في السودان، لم تعد المدارس قاعات للعلم، ولا المستشفيات ملاذًا للشفاء، بل تحولتا إلى أطلالٍ تروي حكايات جيلٍ سُرقت منه الحياة.
يتعمق هذا التحقيق في الجرح الغائر الذي أحدثته الحروب والصراعات القبلية في السودان، مستهدفةً ركيزتين أساسيتين لنهوض أي مجتمع:::: التعليم والصحة. فمنذ الاستقلال، تحولت هذه الصروح الحيوية إلى سراب، وساحات خلفية للنزاعات النفسية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد. تتأثر هذه القطاعات بشكل مباشر بفقدان الموارد البشرية، وتدمير الأرواح، وتبديد الثروات، ونزوح الكوادر الوطنية التي أصبحت اليوم من أفضل الكفاءات في دول المهجر، لتساهم في نهضة بلدان كانت تحت الركام. هذا النزوح الذي استمر لأكثر من عقدين، نتيجة لسياسات خاطئة، لم يترك وراءه سوى نسيج اجتماعي ممزق وبنية تحتية محطمة.

التعليم جيلٌ يُقتَل فيه الحلم والعلم
كيف أثرت هذه الحروب على جودة التعليم، وحرمت أجيالًا كاملة من حقها الأصيل في المعرفة العلمية؟ الواقع يتحدث عن نفسه بمرارة المدارس باتت ملاجئ أو أنقاضًا، والكتب تحولت إلى رماد، والأحلام إلى ذكريات مؤلمة. في ظل هذه الفوضى العارمة، يصبح القلم أضعف من الرصاص، والمعرفة رهينة للفوضى والجهل. الحرب تسرق التعليم كما تسرق الأرواح؛ فهي تخلف أجيالًا بلا مدارس، ومعلمين بلا رواتب، وأطفالًا بلا مستقبل. الفصول الدراسية التي كانت تنبض بالحياة تحولت إلى ملاجئ للنازحين، والمناهج التعليمية أصبحت مجرد أوراق مهملة، والطموحات تبددت لتتحول إلى سراب بعيد المنال. هذا الجيل، الذي كان من المفترض أن يبني مستقبل السودان، يواجه خطر الضياع الكامل، محرومًا من أبسط حقوقه في التنوير والمعرفة.

الصحة:::::::::: صرخات الألم في المشافٍي الخاوية
وما هو الثمن الباهظ الذي يدفعه المواطن البسيط المغلوب على أمره، الذي لا حول له ولا قوة، وقد أصبح القطاع الصحي في مهب الريح أو كالسراب للإنسان العطشان؟ على الرغم من الثروات الطبيعية الهائلة في السودان، من حيوانية وزراعية وصناعية، إلا أن الفقر يتفشى، وتتفاقم الأمراض، وينقص الدواء، وتتدهور الخدمات الطبية بشكل غير مسبوق. تدمير 60% من البنية التحتية للمستشفيات والمرافق الصحية، وتفشي العنف المستمر من قتل وتهجير ونزوح، جعل الرعاية الصحية حلمًا بعيد المنال.
في ساحات القتال، لا يُسمع سوى أنين الجرحى وصدى الألم، حيث تتحول المستشفيات إلى أطلال بلا دواء، والكوادر الطبية بلا أدوات، ومرضى بلا أمل.

الحرب تسرق الصحة كما تسرق الحياة والأمل والتفاؤل؛ فهي تخلف أجيالًا محطمة نفسيًا، واجتماعيًا، وعاطفيًا، واقتصاديًا، وأجسادًا أنهكها الجوع وتفشي المرض. إنها تحول الابتسامات إلى دموع، والأمل إلى يأس، والحياة إلى انتظار للأمراض والموت. في ظلها، يصبح الدواء رفاهية مكلفة، والرعاية والعناية الصحية حلمًا بعيد المنال كالسراب، بفرق الليل والنهار بين الحاجة الماسة والواقع المرير.

الصمود في وجه الجحيم… أين ضمير الإنساني تجاه الوطن والمواطن؟
هنا نسلط الضوء على معاناة الشعب السوداني، مع غياب الاحترام والتقدير للقيمة الإنسانية. المعلمون والكوادر الطبية والطلاب، الذين ذاقوا مرارة التهجير والنزوح، الحرمان من حقوقهم المشروعة كالتعليم والصحة والمرضى الذين ذاقوا مرارة الألم، يحاولون الصمود وتقديم ما يمكن تقديمه في ظل ظروف قاسية للغاية. إنهم يمثلون بصيص الأمل في هذا الظلام، يؤكدون أن التعليم والصحة ليسا مجرد قطاعات، بل هما شريان الحياة الذي ينزف في السودان.

الحرب ليست مجرد معركة على الأرض، بل هي جحيم يلتهم الأجساد والأرواح. إنها تترك خلفها أوطانًا مدمرة، ومستشفيات خاوية، وأرواحًا تنزف بصمت. لكن رغم كل هذا، يبقى الإنسان أقوى من الحرب، فهناك دائمًا من يحاول إنقاذ ما تبقى، ومداواة الجراح، وإعادة بناء ما تهدم. لأن الصحة ليست مجرد علاج، بل هي حق يُقاوم لأجله الإنسان ليعيش في رضا وسلام. وكذلك التعليم، ليس مجرد حق، بل هو سلاح في وجه الجهل والدمار، وهناك من يحاول إعادة بناء المدارس، وإحياء العلم، وإعادة الأمل.
في النهاية، يبقى السؤال المحوري الذي يتردد صداه في كل أرجاء السودان: متى يستيقظ الضمير الإنساني الوطني لوقف هذا النزيف، وإعادة الحياة إلى قاعات الدراسة، والشفاء إلى مشافي الألم ؟

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.