من بندقية التمرد إلى حضن المركز.. سقوط الحركات المسلحة في وحل السلطة

إسماعيل يونس

 

بقلم: إسماعيل يونس

اندلاع حرب أبريل 2023 في السودان مثّل قفزة جديدة في الظلام، تشبه إلى حد بعيد ما درج عليه ما نُسميه مجازًا “الجيش السوداني”، في تكرار لخطى الجبهة الإسلامية التي أرهقت البلاد بالحروب، وسوء الإدارة، وتفكيك مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية نفسها.

ورغم ذلك، فإن خيار الحرب ربما كان خطوة مدروسة من قبل النخبة المركزية، تلك التي بنت شبكة علاقاتها على السيطرة المطلقة على القرار السياسي والحكم، وعلى الشعوب السودانية، رغم ما يظهر أحيانًا من اختلافات أيديولوجية أو سياسية بينها. هذه النخبة تتفق على أمر واحد: منع أي تغيير جذري في أنماط الحكم والإدارة. هذا ما ظلت تؤمن به وتعمل عليه منذ استقلال السودان في 1956.

سؤال الحركات المسلحة: لماذا الانحياز للمركز؟

لكن ما لا يمكن تفسيره بعقلانية أو استراتيجية، هو موقف الحركات المسلحة التي تمردت لسنوات على الدولة المركزية ومؤسساتها، وفي مقدمتها الجيش. وتحديدًا، حركتا العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وبدرجة أقل الحركة الشعبية – شمال بقيادة مالك عقار.

هؤلاء القادة، وعلى رأسهم مناوي وعقار، لم تكن لهم أبدًا روابط سياسية أو فكرية بمنهج الدولة المركزية. بل كانوا من أبرز المنادين بتغيير نظام الحكم في السودان، لصالح نظام ديمقراطي فدرالي يمنح الشعوب حقها في حكم نفسها، وينهي مركزية القرار السياسي الذي تتكئ عليه السلطة في الخرطوم، عبر تحالفات حزبية متناقضة ومؤسسة عسكرية تخدم مصالحها.

لكنهم – في مشهد مفارق – انحازوا اليوم لما ظلوا يقاتلونه، وأصبحوا أحد أضلاع الدفاع عن المركزية والجيش. وهو ما يطرح سؤالًا كبيرًا عن جدية طرحهم السابق حول التغيير، خصوصًا أن بعضهم – كجبريل إبراهيم – كان دائمًا أقرب إلى الإسلاميين منه إلى دعاة التغيير الجذري. فتمرده السابق، بحسب الوقائع، لم يكن لأجل تغيير النظام بل لفرض حضوره في معادلة الثروة والسلطة، وقد تجلّى ذلك في تشبثه بوزارة المالية بعد توقيع اتفاق جوبا، رغم فشل أدائه الذي لا تخطئه عين.

نكوص عن الوعود… وخذلان للثوار:

بانحياز هذه الحركات إلى الجيش، لم تخالف فقط شعاراتها التاريخية، بل خذلت من راهنوا على أن سلام جوبا سيكون مدخلًا لحل جذري للصراع في السودان. خذلت ثوار ديسمبر 2018، وخذلت حتى الدعم السريع الذي كان شريكًا رئيسيًا في جلبهم إلى طاولة جوبا، والذي عبّر مرارًا عن رفضه لأي حرب جديدة ما لم تُحل قضايا الحكم والسياسة.

لكن بمجرد دخولهم السلطة، تناسوا كل ذلك، وغاب عنهم أي تفكير استراتيجي بشأن مستقبل البلاد، أو حتى مستقبلهم السياسي.

إرضاء المركز… وخسارة القواعد:

بانحياز هذه الحركات للسلطة المركزية، فإنها قد تكسب رضا المركز ومجموعاته السياسية لبعض الوقت، لكنها ستخسر قواعدها الشعبية في الأقاليم بلا شك. بل وقد تُقصى نهائيًا عن المشهد، حتى في حال التوصل إلى تسوية أو وقف الحرب، وهذا الاحتمال تقوده فرضيتان:

الفرضية الأولى: استمرار الحرب لفترة طويلة

إذا طال أمد الحرب، فإن الحركات الموقعة على سلام جوبا ستتآكل سياسيًا وعسكريًا، خاصة أن قواعدها الاجتماعية والسياسية باتت تحت سيطرة تحالف “تأسيس – السودان الجديد”، الذي يضم: قوات الدعم السريع في دارفور وكردفان، والحركة الشعبية بقيادة الحلو في جنوب وغرب كردفان والنيل الأزرق.

وحركة العدل والمساواة – بقيادة صندل، وحركة تحرير السودان – قيادة عبد الواحد، وحركة تحرير السودان المجلس الانتقالي بقيادة (الهادي إدريس )– والطاهر حجر الذي يقود حركة (التجمع ) في دارفور، إضافة إلى المك أبو شوتال في النيل الأزرق.

هذا الواقع يجعل تحالف جوبا (حليف الجيش) بلا حاضنة شعبية تذكر، ومجرد امتداد سياسي هش للسلطة المركزية.

الفرضية الثانية: التوصل إلى تسوية سياسية:

في حال تم التوصل إلى تسوية، فإن تحالف “تأسيس” سيكون الأقدر على تمثيل القضايا الجوهرية للشعوب المهمشة، وسيخوض المفاوضات برؤية سياسية لإنهاء هيمنة المركز.

أما الحركات الموقعة على سلام جوبا، فستبقى مجرد حليف عسكري للجيش، بلا برنامج، بلا قواعد، وبلا مستقبل سياسي. بل قد تنتهي إلى التقاعد السياسي والعسكري، ما لم تحدث تغيرات كبرى – مثل انفصالات جديدة – وحتى حينها، سيكون موقعهم في المشهد غير مؤثر.

وخاتما يمكن القول: من المعارضة إلى الانخراط في أدوات السلطة
خسرت الحركات المسلحة شيئًا أعظم من المواقع الوزارية والمناصب، فقد خسرت مشروعها التحرري الذي ناضلت لأجله سنوات. ومن المؤسف أن تتحول من قوى تغيير إلى أدوات في يد السلطة المركزية، ومن تمرد ضد الظلم إلى خندق الدفاع عن الوضع الراهن.. وحتما ان القفز في الظلام لا يقود إلا إلى السقوط الحر، وهذا ما يبدو أنه ينتظرهم قريبًا.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.