شهد قطاع التعليم العالي في السودان تحولات كبيرة خلال العقود الماضية، خصوصًا في عهد حكومة الإنقاذ (المؤتمر الوطني)، التي انتهجت سياسات توسعية في تأسيس الجامعات دون أن تضع الجودة والفاعلية في صدارة أولوياتها. كان الهدف المعلن حينها هو تعميم التعليم وإتاحة فرص الدراسة والبحث العلمي لأكبر عدد ممكن من الطلاب في مختلف الأقاليم، لكن هذا التوجه لم يُبنَ على دراسة دقيقة لاحتياجات المجتمعات، ولا على معايير أكاديمية تضمن جودة المخرجات.
في منتصف التسعينيات، بدأت موجة “ثورة التعليم العالي”، التي رُوّج لها بوصفها نهضة وطنية في مسار التعليم الجامعي. غير أن هذه الثورة كانت في جوهرها موجهة لخدمة أهداف سياسية أكثر من كونها نابعة من رؤى علمية أو تنموية. فبدلًا من تقوية المؤسسات القائمة وتحسين بنيتها التحتية وتطوير مناهجها وربطها بسوق العمل والبحث العلمي، تم اللجوء إلى سياسة الانتشار الأفقي، عبر إنشاء عشرات الجامعات في كل مدينة وقرية، في ظل غياب معايير الجودة والتأهيل الأكاديمي.
كانت هذه المؤسسات في معظمها تفتقر إلى أبسط مقومات الجامعة، من أساتذة مؤهلين، ومكتبات، ومعامل علمية، وسكن طلابي لائق. وكان تأسيسها يتم في كثير من الأحيان استجابة لضغوط سياسية أو قبلية، أو كوسيلة لترضية النخب المحلية، وليس نتيجة لدراسات جدوى أو خطط وطنية واضحة. وبمرور الوقت، تحوّل التعليم العالي إلى وسيلة إرضاء جماعي، يُقدَّم على حساب الجودة والمهنية.فمثلاً في جامعات دارفور كجامعتي الضعين وزالنجي تم انشائها من دون بناء او انشاء داخليات وسكن للطلاب والاستاذة. فعانت هذه الجامعات من اشكاليات منتظمة وعدم استقرار واعتصامات لسنوات طويلة مما اثر بشكل مباشر في انتظام العملية الدراسية بتلك الجامعات.
وقد أدّى هذا التوجه إلى تخريج آلاف الطلاب الذين لم يتم إعدادهم بشكل كافٍ لمواجهة تحديات سوق العمل، أو للإسهام الفعلي في النهوض بالمجتمعات المحلية والاقتصاد الوطني. فالخريج الذي يُفترض أن يكون مؤهلاً علميًا وعمليًا، صار في كثير من الأحيان مجرد حامل شهادة، يفتقر إلى المهارات الأساسية، سواء في مجاله التخصصي أو في المهارات العامة كالتفكير النقدي، والابتكار، والعمل الجماعي.
وعلى المستوى البحثي، تراجعت الجامعات السودانية على سلم التصنيفات العالمية، وضعُف إنتاجها العلمي، وفقدت كثير من مراكزها البحثية قدرتها على التأثير أو تقديم حلول واقعية لمشكلات البلاد. ذلك أن البحث العلمي، الذي يُعد عماد أي نظام تعليمي ناجح، لا يمكن أن يزدهر في بيئة غير محفزة، ولا مدعومة بالإمكانات والتمويل والتشجيع.
إن التحول من الكم إلى الجودة في التعليم العالي لم يعد خيارًا، بل ضرورة وطنية. يجب إعادة النظر في فلسفة التعليم الجامعي من جذورها، وتحديد أهدافه بوضوح، والعمل على تقوية المؤسسات القائمة بدلًا من التوسع العشوائي. يجب أن تُعطى الأولوية للتأهيل الحقيقي، ولربط الجامعات باحتياجات المجتمع، وسوق العمل، وتحفيز البحث العلمي، وتشجيع الابتكار.
وفي هذا السياق، فإن حكومة تأسيس المزمع إعلانها قريبًا تتحمل مسؤولية تاريخية في تصحيح مسار التعليم العالي، عبر تسليط الضوء على هذه المشكلات المتراكمة، ووضع سياسات واضحة لمعالجتها، بحيث يكون التعليم العالي وسيلة لخدمة الطلاب والمجتمعات المحلية، لا سيما في مناطق الريف والهامش التي ظلّت محرومة لعقود من خدمات التعليم العام والعالي، مثل دارفور وكردفان. إن العدالة التعليمية ليست ترفًا، بل حق أصيل ومفتاح لتحقيق التنمية المتوازنة والاستقرار الوطني.
كما يجب أن تتضمن عملية الإصلاح تفكيك سياسات التمكين التي مورست داخل الجامعات، والتي حولت الحرم الجامعي إلى ساحة للفوضى والنشاطات اللاصفية الضارة. فقد استخدمت الحكومات السابقة الجامعات كأداة لتمكين كوادر الأمن الشعبي، ومنحت طلاب الحركة الإسلامية امتيازات غير مستحقة، من بينها ما عُرف بـ”امتحانات المجاهدين”، ومنح درجات وظيفية ومواقع إدارية ومكافآت أكاديمية مقابل مشاركاتهم العسكرية في الحرب ضد الجنوب أو حركات دارفور. هذا السلوك أفرغ الجامعات من رسالتها الأكاديمية، وقوّض مناخ العدالة والشفافية داخلها، وأدى إلى تشويه فكرة التعليم العالي كوسيلة للرقي والتنوير.
فالإصلاح الحقيقي يبدأ من العقل، والعقل لا يُبنى إلا بتعليم نوعي، يقدّم الجودة على الكم، والرسالة على المجاملة، والكفاءة على الولاء.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.