مالك عقار رفيق الأمس… وسكّين الإخوان في ظهر سلفاكير

عمار نجم الدين

في الأسبوع الثاني من يونيو 2025، خرجت دفعة من ثلاثة آلاف مقاتل مسلح من معسكرات الفرقة الرابعة في مدينة الدمازين. لم يكن الأمر مجرّد تدريب روتيني، بل تتويجٌ لعملية أمنية سرّية بدأ التخطيط لها منذ أوائل مارس، بدعم مباشر من قيادة هيئة الأركان السودانية، وجهاز المخابرات العامة، وبإشراف ميداني مستمر من مالك عقار، نائب رئيس مجلس السيادة، وابن شقيقته أحمد العمدة، الحاكم الفعلي لإقليم النيل الأزرق. في الخامس من يونيو، تلتها جلسة أخرى في 12 من الشهر نفسه، انعقد اجتماع عسكري مغلق داخل قاعة قيادة الفرقة، حضره مسؤولون رفيعو المستوى بينهم مدير الاستخبارات “عامر”، وقادة وحدات النقل واللوجستيات. كان الهدف واضحًا: تفجير جبهة جديدة على حدود جنوب السودان، وإعداد قوة هجومية مركّبة تنفّذ ما لا يمكن للقوات النظامية أن تقوم به رسميًا.

تزامنًا مع هذه التحركات، هبطت ثماني طائرات هليكوبتر على مدار شهرين – من أوائل أبريل إلى أواخر مايو – في مناطق حدودية متفرقة، محملة بأسلحة خفيفة ومتوسطة ومعدات اتصال متطورة. عملية التسليح كانت منسقة بإحكام، وتمّت في صمت، دون إعلان أو لفت نظر، على اعتبار أن العناصر المستفيدة من هذه الأسلحة لا تحمل شارة الدولة السودانية، بل تنتمي إلى معارضة جنوب سودانية مسلحة، جرى اختيارها بعناية من مناطق متوترة تهدد استقرار جنوب السودان ، وتكنّ سخطًا تجاه حكومة جوبا. هذه العناصر لم تُسلّح فقط، بل وُعدت بفرصة للثأر مما اعتبرته “إقصاءً تاريخيًا”، في مقابل تنفيذ عمليات هجومية نوعية داخل ولاية أعالي النيل، وتحديدًا في الجبهة الشمالية الشرقية لدولة جنوب السودان.

في الوقت ذاته، تمّ دمج نحو 1,500 مقاتل من المعارضة الإثيوبية المنحدرين من إقليم بني شنقول ضمن البنية نفسها. نقلوا عبر مسارات غير مرصودة، وثُبّتوا في مناطق التماس الثلاثي بين السودان، جنوب السودان، وإثيوبيا، وبالقرب من الكرمك ويابوس. بحسابات عسكرية دقيقة، تُعد هذه المناطق الأقرب جغرافيًا إلى جسم سد النهضة الإثيوبي، حيث تبعد عنه أقل من 140 كيلومترًا فقط، عبر ممرات برية جبلية لا تخضع لرقابة مركزية. وجود هذه القوة في تلك المنطقة ليس عشوائيًا، بل يوفّر للخرطوم نقطة ضغط استراتيجية قابلة للاستخدام الفوري، سواء لمقايضة أديس أبابا في ملفات المياه أو لاستغلال الصراع الداخلي الإثيوبي عبر تحريك المقاتلين نحو جبهة اقليم القمز بني شنقول .

حين انطلقت هذه القوات المشتركة من جنوب النيل الأزرق نحو أعالي النيل، في أواخر يونيو، حاولت ان تباغت بعض النقاط التي تسيطر عليها قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان / شمال. إلا أن التقدم لم يكن بالسهولة التي توقعتها القيادة السودانية. فقد واجهت المجموعات المسلحة مقاومة عنيفة وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح، قُدّرت بالعشرات. وتؤكد مصادر ميدانية أن الجثث تُركت في مناطق الاشتباك، دون محاولة انتشال أو اعتراف رسمي من الحكومة السودانية. لم تصدر وزارة الدفاع أو مجلس السيادة أي بيان، بل تعمّدت الصمت الكامل، وجرى اعتبار القتلى “مجهولي الهوية”، بما أنهم لا يحملون الانتماء الرسمي للجيش السوداني . وهكذا، تم استخدامهم كأدوات قابلة للتجاهل، دون تكلفة سياسية.
الصفقة كانت واضحة. المال المتدفق من خزينة حكومة بورسودان، والإخوان المسلمين المتحالفين مع البرهان، تم توجيهه لتسليح وتمويل هذه المجموعات، مقابل تعهدات بزعزعة استقرار جنوب السودان عبر اختراق الجبهة الحدودية من جهة أعالي النيل. بالنسبة لصنّاع القرار في الخرطوم، كان الأمر يحمل بُعدًا انتقاميًا. فالعقل السياسي المسيطر هناك لا يزال يحمّل جوبا مسؤولية انفصال الجنوب، ويعتبرها حاضنة غير موثوقة للقوى الثورية. وهكذا، تُرِكت المعارضة المسلحة تتقدم نحو مصيرها الدموي، دون دعم حقيقي، ودون غطاء سياسي، سوى وعود ضبابية بالشرعية.
اللافت في كل ذلك، أن من كان يُفترض أنه الحليف التاريخي لسلفاكير، أي مالك عقار، هو نفسه من أعاد توجيه الطعنة. عقار، الذي جلس إلى جوار سلفاكير في مفاوضات كثيرة، وأشاد به علنًا، هو من وقّع على خطة تفكيك الاستقرار في أعالي النيل، وأدار اجتماعات الإمداد والتخطيط في الدمازين. أما أحمد العمدة، فكان الحاكم المعلن لهذه الجبهة، والذي تولّى تنسيق العمليات مع ضباط الخرطوم و قيادات معارضة بني شنقول، لخلق “مسرح عمليات مرن”، قادر على التمدد جنوبًا وشرقًا متى ما دعت الحاجة.
هذه ليست مجرد اشتباكات عابرة، بل إعادة صياغة لعقيدة الضرب بالوكالة. تُستخدم فيها الجغرافيا كساحة للإذلال، والسلاح كأداة لتصفية الحسابات القديمة، والفقراء كجنود بلا خريطة ولا مستقبل. الحدود التي كانت في يوم من الأيام رمزية لتحالف الشعوب، تحوّلت اليوم إلى بوابة لإطلاق طعنات متعددة: طعنة في ظهر سلفاكير، طعنة في خاصرة الجنوب، وطعنة في أمن إثيوبيا. ومن خلف هذه الطعنات، يقف الجنرال مبتسمًا.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.