مجتمعات الرقيق المحرر في السودان : الهوية، التهميش، والمساهمة في تشكيل الوسط السوداني

د.جعفر محمدين عابدين

تُعدّ مجتمعات الرقيق المحرر في السودان، المعروفة محليًا باسم “الحراطين” أو “العبيد السابقين”، من المكونات الأساسية التي أسهمت في تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلاد، لاسيّما في منطقة الوسط الممتدة على طول نهر النيل، والتي تشمل الخرطوم، أم درمان، الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، والنيل الأزرق.

رغم إسهاماتهم البارزة، ظلّت هذه الفئة تعاني من التهميش والتجاهل التاريخي، الأمر الذي أفرز ديناميات معقّدة تتعلق بالهوية، والانتماء، والمكانة الطبقية في السودان الحديث.

الخلفية التاريخية لمجتمعات الرقيق المحرر:

العبودية في السياق السوداني
تاريخ العبودية في السودان ضارب في القدم، وارتبط بصعود الممالك الإسلامية، مثل سلطنة سنار، واستمر خلال العهد التركي المصري (1821–1885)، والمهدية (1885–1898)، ثم حقبة الحكم الثنائي البريطاني المصري (1898–1956). وقد كانت تجارة الرقيق، سواء داخلية أو عبر الحدود، تمارس بشكل مؤسسي وممنهج.

التحرر بعد الاستعمار:

مع نهاية الحكم البريطاني، أُلغي الرق رسميًا، لكن التحرر لم يكن مصحوبًا بتغيير حقيقي في البنية الاجتماعية والاقتصادية. إذ ظلّ المحررون يعانون من الإقصاء، ما أدى إلى بروز مجتمعات مستقلة أو حالات اندماج جزئي في المجتمع السوداني الأكبر.

الاندماج الثقافي والتأثير العروبي
تبني الثقافة العربية الإسلامية
سعيًا للاندماج في المجتمع المهيمن ثقافيًا، تبنّت مجتمعات الرقيق المحرر اللغة العربية، والدين الإسلامي، وانخرطت في الطرق الصوفية كوسيلة لبناء هوية جديدة تقربهم من التيار العام، خاصة ضمن طوائف كالأنصار والختمية.

التزاوج والاختلاط:

ساهم تزاوج هذه الفئة مع المجموعات السودانية العربية في تعزيز الهوية العربية وسط هذه المجتمعات، رغم استمرار التمايز الطبقي والوصم الاجتماعي المرتبط بأصولهم.

الدور الاجتماعي والسياسي:

المشاركة في الحركات الاجتماعية
برز بعض أبناء هذه المجتمعات كقادة في الحركات النقابية والسياسية، خصوصًا بعد الاستقلال، مطالبين بالمساواة والعدالة الاجتماعية. كما انخرطوا في نضالات مطلبية وإصلاحية ضمن إطار السودان ما بعد الاستعمار.

استمرار التهميش:

رغم مساهماتهم في قطاعات الزراعة والخدمة والإنتاج، ظلّ التهميش يلاحقهم، مما دفع فئات منهم إلى الهجرة نحو المدن الكبرى أو الانضمام إلى حركات احتجاج أو تمرّد في بعض الفترات.

الهوية والجدل الثقافي ونقاش العروبة:

لا يزال الاندماج الثقافي لهذه المجتمعات محل جدل: فبينما يرى البعض أنهم ساهموا في تعريب الوسط السوداني، يعتبر آخرون أنهم ظلوا مهمّشين خارج الدوائر التقليدية للسلطة والنخب العرقية (كالجعليين والشايقية).

الإسهام الثقافي:

أسهم أبناء الرقيق المحررين في إثراء الثقافة السودانية، لا سيما في مجال الموسيقى والأدب الشعبي، مثل أغاني “الحقيبة”، التي تمثل تلاقحًا واضحًا بين الموروث الإفريقي والعربي.

الوضع الراهن:

رغم التحولات السياسية والاجتماعية، لا يزال أحفاد الرقيق المحررين يواجهون تحديات تتعلق بالمكانة الاجتماعية، والتمييز غير المعلن، والتفاوت الاقتصادي. في الوقت نفسه، برزت بعض المبادرات للمطالبة بإنصاف تاريخي والاعتراف بمساهماتهم. بينما تحاول الدولة، بخطى بطيئة، معالجة هذا الإرث عبر سياسات دمج ومساواة، فإن الوعي بهذه القضية لا يزال ناقصًا في الخطاب العام.

الخاتمة:

مثّلت مجتمعات الرقيق المحرر جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي السوداني، وأسهمت بعمق في تشكيل الهوية العربية-الإفريقية للوسط السوداني. إلا أن هذه المساهمة لم تُقابل بمكانة عادلة في السلم الاجتماعي، ما يجعل من الضروري إعادة النظر في السرديات التاريخية، وسياسات الإنصاف والاعتراف، لتحقيق مجتمع سوداني أكثر شمولًا وعدالة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.