السودان على مفترق الطرق: بين التغيير الجذري والانفصال الصامت

إسماعيل يونس محمد

مدخل عام: تغيير الأنظمة بين السلم والعنف
شهدت أغلب دول العالم تحولات سياسية كبرى، تفاوتت فيها تجارب التغيير بين الانتقال السلمي وبين الاحتراب الأهلي العنيف. ففي دول مثل بريطانيا والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، جرى الانتقال السياسي بتوافق داخلي، وبتكلفة بشرية محدودة، استنادًا إلى قناعة عامة بحتمية التغيير واستحالته من المنع.
في المقابل، عرف العالم أيضًا نماذج دموية للتغيير، كما في الولايات المتحدة وفرنسا ورواندا، حيث قابلت النخب الحاكمة دعوات الإصلاح بالعنف المفرط، مما أدى لحروب أهلية وانقسامات، لكنها انتهت لاحقًا إلى تأسيس دول حديثة تستجيب لتطلعات شعوبها.
ولم تخلُ الساحة الدولية من أمثلة لدول أحدثت تحولاتها عبر أدوات التنمية والعلم، كما في “النمور الآسيوية” ودول الخليج، حيث تم التغيير دون إراقة دماء، وإنما بإرادة عقلانية واستثمار في الإنسان.
السودان والتغيير المؤجَّل:
أما في السودان، فالقصة أكثر تعقيدًا. فمنذ ما قبل الاستقلال، لم تتوقف مطالب التغيير الشامل، سواء كانت سلمية أو عبر التمرد والحرب. لكن الأنظمة التي توالت على الحكم منذ 1956م، تعاملت مع هذه المطالب بمزيج من الالتفاف والخداع والعنف.
شهد السودان ثلاث ثورات رئيسية (1964، 1985، و2018م)، لكنها لم تؤسس لتحول جذري، لأنها افتقرت لشروط التغيير الشامل. بعد كل ثورة، كانت تعود الحرب لتخنق طموحات التغيير، كما حدث بعد استقلال جنوب السودان في 2011، إذ استمرت النزاعات في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، حتى وصلت إلى العاصمة نفسها في أبريل 2023م.
فالدولة المركزية ظلت ترفض الاعتراف بجذور الأزمة، وتتعامل مع مطالب التغيير وكأنها تمرد يجب سحقه، لا حوار يجب إدارته.
تحولات بورتسودان وعودة شبح الانفصال:
في أعقاب حرب أبريل، تصاعدت مواقف متصلبة من كلا المعسكرين. أعلن الجيش وتحالفاته في بورتسودان تشكيل كتلة سياسية تتجاوز كل قوى الثورة، بينما ظهرت أصوات تحذر من خطوات قد تعيد مشهد الانفصال مجددًا.
فقد مارست حكومة بورتسودان سلسلة إجراءات ذات طابع انفصالي، منها: (قطع الخدمات عن مناطق تحت سيطرة الدعم السريع، قصف مكثف لمدن دارفور، تغيير العملة الوطنية، تنظيم امتحانات الشهادة السودانية بدون مشاركة أكثر من 60% من الطلاب).
ورغم أن البعض لا يرى في هذه الخطوات خطرًا انفصاليًا، إلا أنهم يهاجمون أي محاولة لصياغة إعلان سياسي أو مشروع دستور بديل، معتبرين ذلك “دعوة للانقسام”، في تناقض يكشف حجم الإرباك لدى السلطة.
بين حتمية التغيير ومخاوف التشظي:
الواقع أن غالبية السودانيين ليسوا سياسيين، لكنهم يتضررون من استمرار الحرب ويتطلعون لسودان موحد وآمن. وقد يغيب صوتهم بفعل فوهات البنادق، لكن بمجرد توقف الحرب، سيعودون لتأكيد حتمية التغيير الشامل.
أما النخبة المتحكمة في المركز، فقد تعوّدت العمل في أجواء الفوضى، وتغذت على الحروب، ولا تملك مشروعًا للحكم في حالة السلم. لذلك فإنها متمسكة بالحرب بوصفها غطاءً لتأبيد السلطة.
خاتمة: هل الانفصال هو الحل؟
دعاة التغيير الجذري يدركون أن بناء السودان الجديد لن يتم بسهولة، لكنهم أيضًا غير مستعدين للتنازل عن حلم العدالة والديمقراطية. وإذا كان تحقيق هذا الحلم يستوجب إعادة صياغة شكل الدولة أو حتى القبول بانفصال جديد، يفضي إلى بناء كيانات مستقرة تحترم الإنسان وحقوقه – فلماذا لا؟ الانفصال في ذاته ليس كارثة، إنما الكارثة الحقيقية هي استمرار الحروب، وقمع الأصوات، وتعطيل إرادة الشعوب.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.