الحرب في السودان اليوم تكشف حقيقتها القديمة الجديدة: البيئة هي القائد الأعلى في الميدان، ومن يفهمها ينتصر. منذ أن أعلن جعفر نميري في 1983 أن اتفاقية أديس أبابا ليست قرآنًا ولا إنجيلًا، انفجرت الحرب من جديد، واشتعل الجنوب وغربه وجبال النوبة والنيل الأزرق. الجيش السوداني دخل حربًا طويلة في أرض ليست أرضه، وسط مستنقعات عميقة وغابات كثيفة وأمطار موسمية تقطع الإمداد وتشلّ المدرعات.
تحالف السودان التأسيسي اليوم يقرأ هذا الدرس جيدًا. هو يدرك أن أبناء البيئة هم السلاح الأول، وأن الأرض حين تغضب تصبح أكثر فتكًا من المدافع. معارك أم صميمة، الريف الغربي لكردفان، وجبال النوبة، تحوّلت إلى مقابر مفتوحة لمليشيات درع السودان والبرؤون وكتائب الشمال. هم يقاتلون غرباء في أرض غريبة، فيُركبون ركوبًا عسكريًا مذلًا قبل أن يلفظهم الطين والمستنقع إلى حتفهم. كل يوم تُسقط كردفان عشرات، بل مئات، منهم قبل أن تصل رصاصات تأسيس إليهم. المشهد يذكّر بهزيمة الأمريكيين في غابات فيتنام، وهزيمة السوفييت في كهوف أفغانستان، وبأجساد الجنود الأمريكيين التي جُرّت عارية في شوارع مقديشو رغم تسليحهم وتدريبهم.
قوات تحالف السودان التأسيسي تدير معركتها بدهاء استراتيجي وجاذبية ميدانية لا ترحم: أبناء الأرض يقاتلون في بيئتهم، يعرفون كل شجرة وحجر وجدول ماء، وكل ممر سري بين الحقول والغابات. كما قاد كيكل معارك الجزيرة عندما كان مزروعًا في الدعم السريع لأنه يعرف حواشاتها وترعها و(كتابيها)، ويعرف نساءها ورجالها، ويعرف كيف يركب خصمه ركوبًا كاملاً حتى يصرخ قبل سقوطه الأخير. اليوم يقود أبناء كردفان ودارفور المعركة في تضاريسهم، بينما أبناء الشمال والوسط يُساقون كالأسرى إلى مقابر مجانية على أسوار كادقلي وأم صميمة ودلامي.
هذه المعارك تذكّر بسقوط جيوش عظمى على أسوار حضارات ومدن عنيدة: القسطنطينية 1453 حين انهارت جيوش كانت تظن نفسها منيعة، وستالينغراد 1942 حين ابتلعت المدينة الألمان واحدًا تلو الآخر. كل جيش غريب لا يفهم الأرض ولا يملك جسدها ولا روحها سيخسر نفسه قبل أن يهزم عدوه.
قوات مسار دارفور تعرف أن هذه الحرب ليست حربها الكبرى بعد، فتبقى متخندقة، تحتفظ بقوتها لمعركة مؤجلة مع معسكر بورتسودان الذي يهددها كل يوم بالطرد من الشمال. في الأثناء، يستنزف تحالف السودان التأسيسي مليشيات الشمال بلا رحمة، يجعلهم يتذوقون مرارة الهزيمة، ويعيشون لحظة الركوب العسكري بكل إذلال، قبل أن يبتلعهم الطين في النهاية.
هذه الحرب ستستمر لسنوات، وربما لعقود، لأن الأرض هنا قررت من هو صاحبها، ومن هو الغريب الذي لا عودة له. كردفان ودارفور وجبال النوبة أصبحت القاضي والجلاد، والعدو الذي يصرّ على اقتحامها من الشمال إنما يوقع بنفسه عقدًا مكتوبًا بالدم، عنوانه: “هنا تُركب ثم تُدفن.”
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.