بينما تتواصل الجبهات في تحولٍ مؤلم، تُفيد شهاداتٌ ميدانية وتقارير متقاطعة بوقوع استهدافٍ ممنهجٍ لمدنيين يقيمون في مناطق سيطرة الدعم السريع، في مسعى لتوسيع رقعة الحرب وتعميق الانقسام المعنوي بين أبناء الوطن الواحد. وفي المقابل، تشير بيانات قيادة الدعم السريع وتصريحاتها العلنية إلى رفضها استهداف الأهالي في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، مؤكدةً حرصها على تجنّب الخطاب العنصري أو الانتقام الجماعي، وعلى الحفاظ على ما تبقّى من نسيجٍ وطنيٍ مهدّدٍ بالتمزّق.
قُتلَ ناظرُنا —سليمان جابر جمعة سهل— واطلع العالمُ على فظاعةِ استهداف اجتماعٍ أهليٍّ كان يفترض أن يكون ملاذَ حوارٍ ورعاية، فكان موتُه صاعقًا في صدر الذاكرة الجماعية، وجرحًا لا يلتئم بسهولة. لقد استنفد أفراد العصابة حيلَ المكرِ والفتنة، وهاهي الرباعية تحاصرُهم، فلم يبق لهم إلا إرسالُ المسيرات لتنفيسِ كربٍ وإبرازِ بغضٍ تجاه البوادي التي انتفضت عليهم بملءِ الحقّ، رفضًا لمنهجِ البغي الذي اعتمدوه منذ اللحظة الأولى: لَأواء وتفرقة وبغضاء.
هذا الاستهدافُ ليس اعتداءً على شخصٍ فحسب، بل هو اعتداءٌ على بيتٍ من بيوت السودان التاريخية، على ذاكرةٍ تشكّلَتْ عبر أجيال، وعلى نسيجٍ اجتماعيٍّ إن طمست معالمُه فقد ينهار الوطنُ كاتبًا صفحةً سوداءَ أخرى. الآنَ —بالحزنِ والفزعِ ذاتهما— يجب أن نتعامل مع هذه الجريمة كدعوةٍ للالتئامِ والمساءلةِ: اقتلاعُ منبعِ الكراهية واجتثاثُ سُبلِ التحكّمِ عبر الفتن، وإعادةُ بناءِ وطنٍ لا يقتلُ رموزه ولا يفرّقُ أبناؤه.
أيُّ استهدافٍ لهذا الوزن المعنوي في حياةِ الناس هو استهدافٌ للنسيج الذي صاغته هذه البيوتات العريقة عبر قرون: قياداتٌ للأهل، ذخرٌ للحكمة، مناراتُ شرفٍ لم تَخِرْ أمام تقلبات السياسة. عندما تُقصَف سماتَ هذا النظام الرمزي، لا يُقطَع فرعٌ واحدٌ فحسب، بل تُرْتَجُّ أصولُ الانتماء الجماعي وتُشَظّى بنا عبثًا.
لقد أمعنت عصاباتُ الفساد في هذا البلد منذ القديم في استهداف الرموز الوطنية؛ للتخلص من القيم السودانية، ولكي يخلّوا الميدانَ للموالين والطامعينِ والمستبدين، فينهارُ الصرحٌ القومي ويعتلي المنحرفون واللئامُ قمة السلطةِ على أنقاضِ التاريخ. هذا ما أدّى ببعضٍ إلى الانحدار، وما جرّنا إلى هذه دوامةِ الحرب المقيتة. لكن إدانة الفعل ليست ترفًا: هي واجبُ المحافظة على ذِكرِ الشرفِ، وعلى حقّ الأجيال القادمة في تاريخٍ لا يُقَطَّعُ.
ولأنّ في البلادِ قلوباً لا تزال تعرفُ الفرقَ بين الوطن والفرقة، فإنّ الوقوفَ الآنَ ضد استهداف القِيادات الأهلية أبعَدُ ما يكون عن خطابٍ قبلي ضيّق؛ بل هو وقفةُ مدنيةٍ قوميةٍ لحمايةِ ما تبقّى من هشيمِ النسيج الوطني. إنَّ غضبَنا لا يجب أن يتحول إلى بَعثِ شِقاقٍ جديد؛ بل إلى قضيّةٍ للمساءلةِ والعدالةِ، إلى مطلبٍ لِحمايةِ المدنيينِ والقياداتِ التقليديةِ التي تحمينا من التفككِ.
رحِمَ اللهُ من رحلَ؛ غيرَ أنّ موتَهم لم يكن عبثًا، بل تذكرةً لنا جميعًا بأنّ الدمَ الذي أُريقَ أمانةٌ في أعناقنا. إنّ الدفاعَ عن قياداتِ أهلِنا ليس نداءً قبليًّا، بل استدعاءٌ لضميرِ الدولةِ التي تحترمُ القانونَ والكرامة؛ فالعدالةُ وحدها هي السياجُ الذي يَحولُ دون أن يتحوّلَ الحزنُ إلى سلسلةٍ لا تُحمدُ عُقباه. فلنحوّلْ الغضبَ إلى قوةِ عدلٍ، والأسى إلى دعوةٍ للإصلاحِ والالتئامِ.
ختامًا، لا مستقبلٌ للسودان ولا سبيلٌ لنهضته المستدامة ما دام نفوذُ دولةِ الإخوان المسلمين (الكيزان المفسدين) متجذِّراً في مفاصل الحكم. فلم تكن سياساتُهم يومًا مجرد أخطاءٍ إدارية، أو إخفاقات تقديرية، بل كانت منهجيةً سياسيةً اعتمدت على تحييد القيَم الوطنية وتوظيف الحروب والبغضاء وسيلةً للبقاء.
لقد آن الأوان لوقف هذه الهيمنة وإزالة أطرِ السيطرة التي مكنت هذه الجماعات من التسلط — لا بانتقامٍ عابرٍ، بل عبر مسارٍ دستوريٍ واضح: محاسبةٌ قضائيةٌ مستقلة، تفكيكُ هياكلِ التمويل والتموضع السياسي، وإصلاحٌ مؤسَّسيٌّ يعيدُ للدولةِ سيادتها ومؤسساتِها الضامنة لحقوقِ المواطن. إنّ المصير الوطني يتطلّب حسمًا قانونيًا وسياسيًا يضمنُ انتقالًا حقيقيًا إلى حكمٍ مدنيٍ يعترفُ بالتعدُّد ويحميُ وحدةَ الوطن، لا حلًا يرسّخُ دائرةَ العنف أو الانتقام.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.