من كيلي إلى جوليا: فضيحة الكذب بين سونا والحدث… كيف حوّلت بورتسودان زيارة إنسانية إلى إنجاز دبلوماسي وهمي”
عمار نجم الدين
في زمن الانهيار، حين تفقد الدولة توازنها ومصداقيتها، تلجأ إلى أكثر أدواتها بؤسًا: الكذب. وهذا ما فعلته حكومة بورتسودان التي لم تكتفِ بانتحال الشرعية السياسية، بل راحت تزيّف الواقع نفسه، وتُجمّل رمادها بخبر رخيص نقلته وكالة السودان للأنباء “سونا”، وتبنّته قناة “الحدث السوداني” التابعة لمجموعة “العربية”، في واحدة من أكثر الفضائح الإعلامية ابتذالًا. فقد بثّ الطرفان خبرًا يزعم أن “وفدًا من الاتحاد الأوروبي برئاسة جوليا هيلاند، المدير التنفيذي لقسم السياسات بمفوضية الاتحاد الأوروبي، يزور الخرطوم لبحث المشاريع الممولة من الاتحاد”. لكن الصورة التي استخدموها لم تكن لجوليا هيلاند، ولا لأي مسؤولة أوروبية، بل كانت للسيدة كيلي تي. كليمنتس، نائبة المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي جاءت في زيارة إنسانية تخص أوضاع اللاجئين وسبل إعادتهم، لا علاقة لها بالسياسات الخارجية ولا باتحاد أوروبي لا وجود له في المشهد.
الخطأ هنا لم يكن سهوًا، بل تضليلًا مقصودًا يهدف إلى تضخيم حدث صغير وتحويله إلى مادة دعائية تُظهر حكومة بورتسودان وكأنها ما زالت على اتصال بالعالم الخارجي وتحظى باعتراف دبلوماسي. بينما الحقيقة أن الزيارة كانت في إطار إنساني بحت، تتعلق بملايين السودانيين المهجّرين بفعل الحرب. لكن الإعلام الرسمي في بورتسودان اختار أن يسرق المعنى، وأن يفرغ الحدث من سياقه الإنساني ليملأه بالوهم السياسي. هكذا تتحوّل المأساة إلى استعراض، والمعاناة إلى دعاية، واللاجئون إلى خلفية مناسبة لالتقاط الصور أمام الكاميرات.
إنها ليست مجرد سقطة مهنية، بل تجسيد حيّ لسياسة التزييف التي تمارسها السلطة منذ نشأتها، إذ تعيد إنتاج أدوات المركز القديمة: صناعة الوهم بدل مواجهة الواقع. الدولة التي لا تفرّق بين مفوضية اللاجئين والاتحاد الأوروبي، لا تفرّق أيضًا بين خدمة الحقيقة وخدمة الدعاية. والمؤسف أن قناة بحجم “الحدث السوداني”، المفترض أن تملك أدوات التحقق، وقعت في الفخ ذاته، ونشرت الخبر دون مراجعة أو تدقيق، في مشهد يفضح غياب أي وعي مهني أو وطني.
هذه الفضيحة تكشف أكثر مما تخفي. إنها مرآة لحكومة فقدت وزنها السياسي، فتحاول أن تُعوضه بالضجيج الإعلامي. كل زيارة أممية تتحوّل إلى انتصار دبلوماسي، وكل لقاء إنساني يُعرض كما لو كان صفقة سياسية. إنها الدعاية حين تصبح بديلاً عن الإنجاز، والجهل حين يتوشّح ثوب الرسمية. ما يفعله إعلام بورتسودان اليوم هو تزييف الوعي العام، وبيع الوهم للشعب باسم الدولة، في وقت يعلم فيه العالم كله أن تلك الحكومة لا تملك من أمر السودان شيئًا سوى اللافتة.
كيلي كليمنتس لم تأتِ إلى الخرطوم لتمنح الشرعية لأحد، بل جاءت لتتحدث عن اللاجئين، عن الضحايا الذين هجّرتهم الحرب التي أشعلها نفس النظام الذي يتزيّن الآن بصورتها. لكنها وجدت نفسها – دون علمها – تُستخدم كأداة بروباغندا رخيصة في مسرحية سياسية لا تليق حتى بطلاب إعلام سنة أولى. إن ما فعلته “سونا” و”الحدث السوداني” ليس مجرد عبث بصري، بل تلاعب متعمد بالوعي الجمعي، ورسالة إلى الداخل المأزوم بأن “الحكومة بخير” و”العلاقات الدولية تسير”. لكنها في الواقع لا تملك سوى المايكروفون والكذب، تُخاطب فراغًا لا يسمعها أحد.
هذه الحادثة، بما فيها من تدليس وتضليل، ليست حدثًا عابرًا بل دليل على سقوط أخلاقي ومهني شامل. فحين تتحول وكالة أنباء الدولة إلى أداة لتزييف الوقائع، وتتبناها قناة إقليمية كبرى بلا مراجعة، نكون أمام انهيار مزدوج: سقوط الإعلام وسقوط الدولة التي يمثلها. الكارثة أن هذا النوع من التضليل لم يعد يُمارس بدافع الجهل فقط، بل كخطة واعية لتضخيم أي صورة تمنح الحكومة شعورًا زائفًا بأنها ما زالت في المشهد الدولي.
في النهاية، من يكذب في هوية الزائر، سيكذب في كل شيء بعدها. ومن يحوّل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أداة سياسية، سيعامل الشعب كله كما لو كان لاجئًا في وطنه. تلك هي بورتسودان اليوم: عاصمة الوهم، حيث يصنع الإعلام الأكاذيب لتخدم سلطة فقدت كل صلة بالحقيقة، وحيث تتحول الزيارة الإنسانية إلى نشرة رسمية للكرامة المهدورة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.