تحولت في أقل من شهر ستة تجمعات مدنية في السودان إلى مسارح موت مفتوح بفعل ضربات جوية نفذها سلاح الجو التابع للجيش السوداني استهدفت هذه الضربات مناطق مأهولة بالمدنيين منها مناطق الزرق و و الكومة بلبل تمبسكو و سرف عمرة و المزروب دون وجود أي أهداف عسكرية داخلها جميع هذه الهجمات وقعت خلال ساعات الذروة حيث كانت الأسواق مكتظة بالبسطاء الذين يسعون لكسب أرزاقهم و شراء احتياجاتهم الأساسية.
و بحسب شهادات مدنيين لم تكن هناك أي أهداف مسلحة أو انتشار لعناصر قوات الدعم السريع في تلك الأسواق و رغم ذلك لم تصدر القيادة العامة للقوات المسلحة أي بيان توضيحي حول ملابسات القصف و لم يفتح أي تحقيق داخلي أو دولي في وقت اعتبر فيه مراقبون هذه الضربات دليلاً على اعتماد سياسة الأرض المحروقة و استهداف للمدنيين تحت ذريعة أنهم حواضن.
و أكثر ما يزيد فداحة هذه الجرائم هو تأكيد استخدام أسلحة كيماوية محرمة دولياً في بعض المناطق مثل الكومة و مليط بشمال دارفور بحسب تقارير ميدانية تم جمعها من فرق طبية متطوعة و شهود عيان وثقت حالات اختناق حاد و حروق جلدية غريبة في أعقاب قصف المناطق و هي أعراض متطابقة مع تأثيرات الأسلحة السامة في مناطق أخرى ثبت استخدام الكيماوي فيها مع أن السلطات السودانية لم تعلق على هذه المعلومات إلا أن تواتر الشهادات و شبهات التستر على الواقعة يعززان الرواية القائلة بأن الجيش السوداني استخدم بالفعل مواد كيماوية في خرق واضح لمعاهدات حظر استخدام الأسلحة الكيميائية و مواثيق القانون الدولي الإنساني.
أصدرت بعض الجهات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة بيانات عامة تعرب فيها عن القلق من تدهور الوضع الإنساني و استخدام أسلحة محرمة دولياً في النزاع و مع ذلك ظل الموقف الدولي في مجمله بطيئاً متلكئاً الأمر الذي يفسره كثيرون على أنه صمت مريب يرقى إلى التواطؤ خاصة في ظل تواجد الأدلة و التقارير الميدانية.
المفارقة الأكثر قسوة أن معظم هذه الهجمات لم تحظ بأي تغطية إعلامية محلية أو دولية تليق بحجم الجريمة عدد كبير من المنصات و الصحف تجاهلت تماماً ما حدث أو اكتفت بنقل موجز.
هذا الصمت الإعلامي لا يفرغ الجرائم من معناها فقط بل يعزز إفلات الجناة من العقاب و يضعف من فرص التضامن الدولي مع الضحايا و يحرم الناجين من أبسط حقوقهم أن تسمع قصصهم.
بالتوازي مع هذا التصعيد تستمر السلطات السودانية و بعض الجهات الإقليمية الداعمة لها في الترويج لما يعرف بالعودة الطوعية للنازحين و اللاجئين رغم غياب أي ضمانات حقيقية لسلامتهم أو بيئة آمنة لاستقبالهم و الأخطر من ذلك أن العاصمة الخرطوم التي يفترض أن تكون الملاذ الأخير تعاني حالياً من تدهور صحي و إنساني خطير حيث سجلت المستشفيات خلال الأسابيع الأخيرة ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات الوفيات الناتجة عن أمراض غير معروفة خاصة بين الأطفال و كبار السن التقارير الطبية تشير إلى أعراض غريبة و سريعة التطور في ظل نقص حاد في الأدوية و المياه النقية و الخدمات الأساسية ما يجعل من العودة إلى العاصمة أشبه بالذهاب إلى موت البطئ.
تحدث هذه الكارثة الإنسانية وسط مساعٍ دولية لإعادة الأطراف السودانية إلى طاولة التفاوض و تقديم مبادرات سياسية تعتبرها بعض الجهات طريقاً للسلام لكن غياب المساءلة عن الجرائم الجارية يضع هذه المبادرات موضع شك إذ كيف يمكن الحديث عن سلام في ظل استخدام الأسلحة الكيماوية؟ كيف تبنى تسويات سياسية بينما يقصف المدنيون في الأسواق؟ و ما قيمة أي اتفاق لا يتضمن اعترافاً ينصف الضحايا و محاسبة الجناة؟
يبدو أن أي مشروع سياسي في السودان سيكون قابلاً للحياة دون اعتراف واضح بأن المدنيين هم من دفعوا الثمن الأكبر في هذه الحرب سواء في دارفور أو كردفان أو الخرطوم أو الجزيرة أو سنار… إلخ ما لم يتم وقف استهدافهم و محاسبة المتورطين في قتلهم و تجويعهم و تشريدهم فإن كل حديث عن السلام سيظل شكلياً مفرغاً من المضمون و مرشحاً للفشل.
إن السودان اليوم ليس مجرد ملف تفاوضي إنه خريطة متشظية من الألم مكتظة بالضحايا الذين لا صوت لهم و لا منصة تنقل آلامهم و معاناتهم كل نقطة على هذه الخريطة تمثل موقع قصف سوقاً أو مستشفى أو مدرسة أو حتى بيوتاً مدمرة و أماً ثكلى أو طفلاً مات اختناقاً في صمت لا يمكن رسم خارطة وطن على الورق حين تكون الجثث جزءً من معالمه.
من يرسم خرائط السودان الآن؟ و من يتحدث باسمه؟ و أين تقف الإنسانية من هذه الخسارة الكبيرة التي لا يبدو أن أحداً يريد الإعتراف بها.
إن أسوأ ما يمكن أن نفعله الآن هو أن نصمت
و أسوأ من الصمت هو أن نمنح الصفح لمن لا يعترف حتى بجريمته.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.