فــي الوقــت الــذي تتنــفس فــيه الشعـــوب أوطانـــها أملًا، يختنق السودان تحت وطأة الإهمال، وتغيب الحياة كما يغيب الأكسجين عن غرف المرضى. لم تعد الأزمة الصحية في البلاد مجرد خلل إداري أو نقص في الموارد؛ بل تحوّلت إلى قضية ضمير وكرامة وطن. فالذي يختنق اليوم ليس المريض وحده، بل تختنق معه إنسانية أُمةٍ تُدار بعقليةٍ فاشلةٍ فقدت القدرة على الإحساس بالوجع العام، وتصرّ على تزييف الواقع في وضح النهار
حيــن يصبـــح التنـــفّس تــــرفًا والأكســجين حلمًا بعيد المنال، وحين تتفشى الأمراض وتغيب الرقابة، ويقف المسؤولون صامتين كأنّهم لا يرون، فهنا تبدأ المأساة الحقيقية… مأساة وطنٍ يعاني اختناقًا جماعيًا في ضميره قبل رئتيه إن مــا يحــدث داخــل المستشفيـــات ولاية الخرطــوم الــيوم ليــس مجرد أزمة خدمات، بل كارثة إنسانية تتفاقم يومًا بعد يوم في ظل غياب الدولة وضعف الرقابة الأخلاقية وفساد الإدارة الصحية
الأكسجــين، هــذا العنصــر البسيــط فــي تركيبــته، العظــيم فــي أثــره، هــو أساس الحــياة وركيـــزة البقــاء علي قــيد الحــياة بــدونه تتوقف كل خلية عن العمل، ويغيب الوعي، وتخمد آخر شرارات الأمل في صدور المرضى. غير أن هذا العنصر الحاسم بات اليوم مفقودًا في مستشفيات الخرطوم والولايات، لدرجة جعلت المرضى ينتظرون أنبوبة أكسجين كما ينتظر الغريق قارب النجاة.
فــي المستشفيــات العامــة، لا صــوت يعلــو علــى صــوت المـــعاناة وازدياد عدد الوفـيات و صفوف طويلة من المرضى، أجهزة مهترئة، ومراكز بلا دواء ولا دعم. في ردهات العناية المركزة، أطباء يواجهون الموت بأيديهم العارية، ومرضى يلفظون أنفاسهم الأخيرة في صمتٍ لا يسمعه أحد. الصيدليات تغصّ بالباحثين عن دواءٍ مفقود، والأسواق السوداء للدواء تنتعش في ظل غياب تامٍ لأي رقابة حقيقية. كل ذلك يجري أمام أعين المسؤولين، وكأنّ حياة الناس لا تعني لهم شيئًا
لقــد تحــوّل الفـــشل الإداري إلى منهجٍ متأصّل في مفاصل وزارة الصحة، وأصبح الصمت سياسة رسمية تُدار بها الأزمات. فالحكومة الحالية — التي جاءت بانقلابٍ على الثورة لا باسمها — لم تكتفِ بتكرار أخطاء النظام السابق، بل تجاوزته في سوء الإدارة وانعدام الحس الإنساني.
ذات الوجوه التي كانت تُبرّر الكوارث بالأمس، ما زالت اليوم تُدير المشهد، وتعيد إنتاج الأزمات القديمة بأساليب جديدة من الكذب والتبرير والتعتيم.
تغيــب الخطــط، وتغـــيب الأولويــات، وتغــيب معــها المسؤوليــة الأخلاقـــية التي تُلزم أي دولة باحترام حق مواطنيها في العلاج والحياة الكريمة
بــل إن وزارة الصــحة ولاية الخرطــوم باتت اليوم مرآةً صافية تعكس حجم الفساد المؤسسي، حيث المناصب تُوزَّع بالولاء لا بالكفاءة، والقرارات تُتخذ بالمجاملة لا بالمسؤولية.
ومع كل موجة أمراض جديدة، تُصدر الوزارة بيانات خجولة تنفي وتبرر وتُضلل، في حين أن الواقع الصحي على الأرض يقول ما هو أصدق وأقسى:
المرضى يموتون، والأطباء يُرهقون، والناس يُتركون لمصيرهم دون دواء أو أكسجين.
الريف يعيش مأساةً أخرى.
في القرى النائية، لا توجد مراكز مجهزة، ولا سيارات إسعاف، ولا حتى غرف إنعاش الأهالي ينقلون مرضاهم على ظهور العربات أو الدواب، وأحيانًا على الأكتاف، فقط ليصلوا إلى أقرب مستشفى يمكن أن يمنحهم فرصةً للبقاء. لكن حتى هناك، يجدون المستشفى مغلقًا أو بلا طاقم طبي أو بلا أوكسجين. وهنا يختنق المواطن مرتين: مرةً بنقص الهواء، ومرةً بغياب العدالة
إنّ الــمأساة لم تعد قابلــةً للتجمــيل أو الإخفــاء. فعدد الوفيات في ازديادٍ مروّع، والأمراض تتفشى في صمت، ووزارة الصحة تمارس سياسة “السكوت خيرٌ من الفضيحة”، لتُبقي المواطن بعيدًا عن الحقيقة، والعالم في ظلامٍ عمّا يجري. لكن مهما طال التعتيم، فلن يختنق الضوء.
فالحقائق لا تُدفن، والكارثة لم تعد مسألة وقتٍ بل مسألة ضميرٍ مفقود فــغـــياب الأكسجــــين ليــس مشــكلة فنية، بل مؤشر على انهيار منظومة بأكملها، منظومة فقدت الضمير قبل أن تفقد القدرة إن الحكومة التي لا تملك الشجاعة للاعتراف بفشلها، لا تملك الحق في إدارة حياة الناس
والإصــلاح لــن يبـــدأ بالتصــريحات، بل بمحاسبة المسؤولين ومراجعة كل سياسات الوزارة وتطهيرها من عقلية النظام السابق التي ما زالت جاثمةً على صدر الشعب السوداني أما حين يختنق الضمير، فليس هناك أوكسجين كافٍ لإنقاذ وطنٍ بأكمله وحين تغيب الإنسانية عن مؤسسات الدولة، يغيب معها الحق في الحياة إن ما يجري اليوم في السودان ليس مجرد أزمة صحية، بل جرحٌ وطنيٌّ مفتوح يحتاج إلى ضميرٍ حيّ، وشجاعةٍ سياسيةٍ حقيقية تعترف، وتواجه، وتُصلح.
فالأوطان لا تُبنى بالصمت ولا تُشفى بالتبرير، بل بالمسؤولية والمحاسبة والصدق مع الناس. وإن لم يتنفس هذا الوطن ضميره اليوم، فلن يكون غدًا إلا امتدادًا لاختناقٍ طويلٍ بدأ منذ أن قرر المسؤولون أن يعيشوا في هواءٍ غير هواء شعبهم
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.