أبــناء الهامــش إلــى الخـــنادق .. وأبـــناء النخــبة إلـــى الفــــنادق
أ/سلـــيم مـــحمـد عبــداللــه
أ/سلـــيم مـــحمـد عبــداللــه
في زمـن تتقاطع فيه الشعارات مع الرصاص، وتختلط فيه معاني الوطنية بمصالح البقاء، تتكشف ملامح معادلة مريرة تدار بها البلاد: أبناء الهامش إلى الخنادق… وأبناء النخبة إلى الفنادق
معادلة ليست مكتوبة في القوانين، لكنها محفورة في جسد الواقع، تمارس كل يوم بدم بارد، وبخطاب يخلط بين الإيمان والوهم، وبين الدفاع عن الوطن والدفاع عن السلطة
منذ أن دوّى البيان الأول، وارتفع صوت التعبئة والاستنفار، تَحول الوطن إلى معسكر كبير. تُفتح أبواب الحرب أمام أبناء القرى والمناطق المنسية، أولئك الذين لم يذوقوا من خيرات الدولة إلا الفقر، ولم يروا من العدالة إلا ظلّها البعيد. يستدعون باسم ““ الوطنية ““ ويُدفعون إلى المتاريس بلا عتاد سوى اليقين المكسور، فيما يتوزع أبناء النخب على مقاعد المكاتب والفنادق، يرفعون الشعارات من وراء الزجاج الملون، ويكتبون بيانات النصر بأقلام لم تلمس غبار المعركة
بين الخندق والفندق، مسافة من الدم والعُري الأخلاقي. هناك في الأطراف تزرع البطولات الصامتة، وهنا في المركز تحصد ثمارها على موائد السياسيين. أبناء الهامش يعودون في نعوش مغلقة، بلا أوسمةٍ ولا وعود، بينما أبناء النخبة يعودون في طائرات أنيقة، يتحدثون عن التضحية وكأنهم شهدوا الحرب من مقاعد الدرجة الأولى
هذه ليست صدفة التاريخ، بل خُطة قديمة بنيت لبقاء النظام على أنقاض العدالة. فمنذ دولة الإنقاذ الأولى، رسِمَت الجغرافيا على مقاس الامتياز: الهامش يقدم الدم، والمركز يقطف الثمر. تكرّست طبقيةٌ مغطاة بشعارات الدين، يستدعى فيها الفقر وقت الحاجة، وينسى بعد انتهاء البيان العسكري. فالكــيزان {الإســلاميــين} كما علّمونا التجربة لا يحاربون دفاعًا عن الأرض، بل دفاعا عن سلطتهم التي تغتذي من جثث البسطاء
في كل خطابٍ تعبوي، تزرع فكرة أن الدفاع عن الوطن شرف، لكن هذا الشرف لا يُوزّع بعدل. أبناء القرى يقاتلون ليُثبتوا أنهم أبناء الوطن، وأبناء القصور يتحدثون باسم الوطن دون أن يقتربوا من ناره. تغذى الحرب بالتحريض والخوف، ويسكب الزيت على الجراح بعباراتٍ منمقة:::: ““الأستنفار، الكرامة، النخوة““ لكنها في الحقيقة أقنعة لسلطة لا تعرف من الوطنية إلا ما يبقيها على عرشها.
في معسكرات الاستنفار، تسلب الإرادة تحت لافتة الواجب. يقال الشعب و الشباب إن الوطن يناديهم، لكنهم يعلمون في دواخلهم أن النداء ليس سوى طَلب جديد للموت. يمضون إلى الخنادق بقلوب ممتلئة بالخوف والرعب والخدرع، وبطون فارغة من الخبز، فيما يجلس أبناء النخب في الفنادق، يراقبون على الشاشات مشهد التضحية وكأنه فيلم وطني طويل الأمد.
إنها ليست حربا بين أطراف مــتنازعة، بل صراع بين وعييـــن: وعــي وُلد من رحم المعاناة، ووعي مزيّف ولد من رحم الامتيازات. وعي الهامش الذي يرى في الحرب عبثا مكرورا، ووعي النخبة الذي يراها فرصة لإعادة التموضع في مراكز النفوذ {السلطة بدماء الأبرياء}من حـرب الكرامـة الي استنـفار الهـامــش
لقد آن الأوان لإعادة تعريف مفردة ““ الاستنفار الوطني ““ فالاستنفار الحقيقي ليس ذاك الذي يدفع الفقراء إلى الجبهات، بل الذي يدفع الضمير إلى الصحوة. ليست الوطنية أن تموت من أجل من سرق حقك، بل أن تحيا لتستعيده. إنّ الهامش الذي دُفع إلى الخنادق يستحق أن يستنفَر اليوم من أجل العدالة، لا من أجل الطغيان.
الوطن ليس ثكنة عسكرية، ولا ساحة تصفية لحسابات النخب، بل بيت واحدٌ لا يبنى إلا حين تتساوى الدماء في قيمتها. وحين يستنزف أبناء الهامش في حربٍ لا تخصهم، فذاك يعني أن الحرب لم تعد وطنية، بل صفقة تدار في الخفاء
إن أخطر ما أنتجته حكومة الانقــلاب الكــيزانــي ليس فقط الخراب، بل الانقسام النفسي الذي جعل المواطن يُصنف حسب موضعه من الخريطة: من يقاتل يُدعى بطلاً، ومن يفكر يُتهم بالخيانة. هكذا يعاد تعريف الشرف وفق مصلحة النظام، لا وفق مبدأ الوطن.
لكن الوعي مهما تأخر قادم. فكل دم سُفك ظلما سيعيد كتابة المعادلة من جديد: لن يبقى أبناء الهامش إلى الأبد وقودا لحروب النخبة سيأتي زمنٌ لا تقاس فيه الوطنية بعدد الرصاصات، بل بقدرة الإنسان على أن يقول ““ لا ““حين يكون الصمت خيانة
وحين يُعاد تعريف الوطن ليكون للجميع، لا لأبناء الفنادق وحدهم، سيُغلق آخر خندق، وستُفتح أول نافذةٍ للكرامة الحقيقية
عندها فقط سيعرف الوطن طعم السلام، وسيعود الإنسان إلى مكانه الطبيعي: مواطنا لا رقما في قائمة التعبئة، ولا جثة في دفتر الشهداء
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.