مصر وحرب السودان .. دعم الجيش وإشعال الأزمة
القاهرة – عين الحقيقة
بعد خروج قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان من مباني القيادة العامة، أو ما عرف عند عامة الشعب ب (البدروم) اختار البرهان أن تكون أول زيارة خارجية له إلى مصر، و تاريخياً يمكن القول إن العلاقات السودانية مع مصر ظلت لاتحظى بالحد الادنى من الوفاق الداخلى فى السودان، حيث كانت العلاقات متوترة مع حكومة عبدالله خليل فى المراحل الاولى من إستقلال السودان، لكى تتحسن فى عهد الجنرال عبود، ثم تعود للفتور فى الديمقراطية الثانية، وتتحسن فى عهد نميرى لتعود للفتور فى الديمقراطية الثالثة.
فيما شهدت العلاقات السودانية المصرية أسوأ مراحلها فى عقد التسعينيات من القرن الماضى، مع انقلاب الجبهة القومية الاسلامية فى عام 1989م ثم عادت الأمور للتحسن فى السنوات العشر الاخيرة بدءا من عام 2000 الذى شهد إنشقاق نظام الإنقاذ وخروج الراحل حسن الترابى وحلفائه لصالح تحالف البشير وعلي عثمان محمد طه الذي تخلى تماما عن المشروع الحضاري الاسلامي وانفتح داخلياً وخارجياً.
وفي الخمسة سنوات الماضية شهدت العلاقات السودانية المصرية تطوراً ملحوظاً، بعد الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، ووصل تطور العلاقات ذروته مع تبني الطرفين لمواقف متقاربة حيال أزمة سد النهضة الإثيوبي، غير أن انقلاب 25 أكتوبر الذي نفذه البرهان قطع الطريق أمام تطور تلك العلاقات.
والمتابع للوقائع والمراحل التى مرت بها العلاقات المصرية السودانية من دورات تتأرجح بين الهبوط والصعود، لابد أن يستنتج خلاصة أساسية هي أن هذه العلاقات لا يمكنها أن تستقيم أو تتطور مالم تتحول إلى علاقات بين دولتين، وليس بين نظامين أحدهما فى القاهرة والثانى فى الخرطوم، بمعنى أن تبنى هذه العلاقات على الثوابت التى لا تتغير، بحيث تمثل توجها ثابتا يبنى على المصالح ويحظى بالوفاق بين القوى السياسية ويلقى القبول الواسع بين أطياف الشعب.
ومن الواضح أنه لاتوجد مشكلة فى هذا الاطار على الجانب المصرى ، فمصر حكومة وشعبا تدرك أهمية السودان بالنسبة لها، وهو يحتل مكانة فريدة من نوعها فى العقل الجمعى، وكذلك فى الوجدان الشعبى لا تضاهيها العلاقة مع أى بلد آخر.
غير أن الأمر ليس كذلك على الناحية الإخرى حيث عانى السودان – لأسباب عديده – من عدم إكتمال مشروع دولته الوطنية، ومع تفاقم أزمات الهوية والشرعية والإندماج الوطنى وعدم الاستقرار السياسى، بسبب المشروع الأيدلوجى لنظام الإنقاذ، بدأ مشروع الدولة السودانية فى التراجع لحساب الانتماءات الأولية العرقية والجهوبة والثقافية، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى تقسيم السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية، وبعد الإطاحة بنظام الإنقاذ عبر ثورة شعبية عاد عناصر النظام البائد وقطعوا الطريق أمام تحقيق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، وأشعلوا حرب أبريل المدمرة.
وفي ظل تلك التعقيدات، التي تسود علاقات السودان ومصر، وتأثيرات التوترات الإقليمية، يبدو مصير التعاون والتنسيق بين البلدين رهين بمصالحهما ودوافعهما وقدرتهما على تجاوز بؤر التوتر، ولكن في ظل غياب نظام أو حكومة شرعية في السودان بسبب حرب أبريل المدمرة، وفي خطوة متوقعة استقبلت القاهرة البرهان في أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الحرب في 15 – أبريل الماضي.
ويبدو واضحاً أن الحكومة المصرية برئاسة المشير عبدالفتاح السيسي تدعم الجيش السوداني الذي تعتقد انه مؤسسة قومية تمثل كل السودانيين، فيما تنظر لقوات الدعم السريع بأنها مليشيا، ولكن بحسب المعطيات فإن دعم الحكومة المصرية للجيش السوداني سيظل مربوط بإبعاد عناصر الجبهة الإسلامية من المؤسسة العسكرية وهو الشرط السري الذي ربما وافق عليه البرهان.
وفي سياق متصل بالعلاقة بين البرهان ومصر كشفت تسريبات تحصلت عليها صحيفة (عين الحقيقة) عن الدور المصري في حرب السودان، وأكدت التسريبات ان الفريق أول ميرغني إدريس المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية، قام بتاريخ 26 – سبتمبر – 2023م قام بإرسال خطاب موجه الـى رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقتها الفريق اول ركن عبدالفتاح البرهان، وذكر الفريق ميرغني في خطابه للبرهان في الفقرة رقم (1) النقطة الثالثة: تم الإتفاق مع جمهورية مصر العربية لدعم القوات المسلحة جويا وضرب الأهداف التي تخص مليشيات قوات الدعم السريع، وستشارك جمهورية مصر أيضا بالطائرات المسيرة من طراز( EJune-30 SW ) على أن تلتزم حكومة السودان بدفع مبلغ (100.000,000) دولار (مائة مليون دولار) شهريا وهي تكاليف تشغيل تلك الطائرة.
وأكدت التسريبات التي تحصلت عليها (عين الحقيقة) أن مصر طالبت بمبلغ (100) مليون دولار شهرياً لكي تغطي تكاليف طائرتها المسيرة (EJune-30 SW ) وهي طائرة مستنسخة من طائرة امارتية (United 70 ) مع قليل من التعديلات على أطراف الأجنحة وأضاف مصدر التسريبات قائلاً: (علشان اخوتنا الامارتيين مايزعلوش مننا ) وبرز سؤال خلال هذه الصفقة: من أين سيأتي البرهان بمبلغ (100) مليون دولار شهريا؟ وهل سيضحي ويرهن مناجم الذهب ومقدرات الشعب السوداني لمصر لعشرين سنة قادمة؟ وربما يكون قد فعل ذلك لطالما ينظر المصريين للسودان بأنه البقرة الحلوب في الوقت المطلوب.
ومنذ إندلاع الحرب في السودان ظلت مصر تعلن عن موقف رسمي وتعمل في الخفاء على نقيضه، وفي أبريل من العام 2023م قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي: (مصر تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف السودانية، ولا تتدخل في الشأن الداخلي للسودان .. ونحن مع وحدة السودان واستقراره) وصرح السيسي بذلك أثناء مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء اليابان.
وفي أبريل 2023م قالت وزارة الخارجية المصرية: (تتابع مصر بقلق بالغ تطورات الأوضاع في السودان، وتدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار .. وتشدد مصر على عدم انحيازها لأي طرف من أطراف النزاع) وفي مايو 2023م قال السفير أحمد أبو زيد المتحدث باسم الخارجية المصرية: (مصر ليست طرفًا في النزاع .. ونحن نبذل جهودًا حثيثة عبر اتصالاتنا لتسهيل وقف النار وحماية الشعب السوداني).
وظلت مصر تؤكد على الحياد في المحافل الدولية، وفي جلسة مجلس الأمن الدولي في يونيو 2023م أكد ممثل مصر الدائم في الأمم المتحدة أن (مصر ترفض التدخلات الخارجية في السودان، وتدعم المسار السياسي السوداني دون انحياز، وتطالب الأطراف السودانية بالاحتكام إلى الحوار) وشددت مصر في البيان الختامي لاجتماع دول جوار السودان في القاهرة في يوليو 2023م شددت مصر في هذا البيان على (ضرورة احترام سيادة السودان، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، ووقوف دول الجوار على مسافة واحدة من كل الأطراف).
وفي الإعلام الرسمي والدبلوماسي ظلت مصر تؤكد على موقف الحياد، وفي أغسطس 2023م وفي لقاء إعلامي في قناة العربية، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري : (نحن لا ندعم طرفًا على حساب الآخر، نحن مع الشعب السوداني ومع المؤسسات الوطنية، وندعو لحوار شامل بين الجميع) وفي مبادرة مصرية لوقف إطلاق النار في سبتمبر 2023م أكدت مصر أن مبادرتها لا تنحاز لأي طرف، بل تسعى فقط لحماية المدنيين ومنع انزلاق السودان نحو التقسيم أو الفوضى.
ومنذ إندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023م وحتى الان ظلت مصر تعلن عن موقف رسمي وتعمل في الخفاء على نقيضه، ولكن التسريبات التي تحصلت عليها (عين الحقيقة) كشفت عن: إتفاق بين مصر والبرهان لدعم الجيش السوداني جوياً وضرب أهداف قوات الدعم السريع، وبهذا إتضح للجميع حقيقة الدور المصري في حرب السودان .. وما بين هذا وذاك، يحتم الواجب الأخلاقي على مصر أن تلعب دور إيجابي في إنهاء حرب أبريل المدمرة، ويكمن الدور الإيجابي في دعم الحل التفاوضي، وليس الدعم العسكري للجيش السوداني لمواصلة الحرب وحسم المعركة عسكرياً الأمر الذي سيزيد من معاناة الشعب السوداني وتدمير البنية التحتية والاقتصادية للسودان.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.