كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟

✍️ الصديق المريود

أريزونا، الولايات المتحدة الأمريكية
2 أبريل 2025

في قلب النزاع السوداني، تتكشف يومًا بعد يوم جرائم بشعة تُرتكب بحق المدنيين، حيث وثّقت مقاطع فيديو عمليات إعدام ميدانية نفذها أفراد من الجيش السوداني والمجموعات المتحالفة معه. المشاهد القادمة من أحياء الخرطوم ومحلية جبل أولياء، من بري والجريف غرب إلى الصحافات ومايو والأزهري والكلاكلات، تحكي عن عمليات قتل بدم بارد، يُساق فيها الضحايا إلى الموت تحت ذرائع واهية، دون محاكمات، ودون أدنى اعتبار للإنسانية أو القانون. هذه الجرائم، التي يتم تبريرها بتهم زائفة مثل التعاون مع قوات الدعم السريع، ليست سوى جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى بث الرعب وإحكام السيطرة عبر نشر الخوف في صفوف المدنيين.

ما يجري اليوم في السودان ليس مجرد فوضى حرب، بل إعادة إنتاج لتاريخ طويل من الاستهداف على أساس الهوية. منذ استقلال السودان عام 1956، تحوّل الجيش السوداني من مؤسسة وطنية يُفترض أن تحمي الشعب إلى أداة قمعية تستهدف فئات بعينها، تُنفّذ المجازر، وتعمل وفق أجندات إقصائية. من جنوب السودان قبل انفصاله، إلى دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، ظل الجيش السوداني وميليشياته المتحالفة ينفّذون عمليات إبادة جماعية، إما بدوافع عرقية أو سياسية. في السبعينيات والثمانينيات، ارتُكبت مجازر بحق سكان جنوب السودان، حيث تم تصفية القرى وإبادة العائلات بأكملها. وفي دارفور، منذ 2003، قتل مئات الآلاف من المدنيين، واغتصبت النساء، وأُحرق القرى بواسطة الجيش مع توفير الغطاء من عصابة الانقاذ .

القاسم المشترك في كل هذه الجرائم هو القتل على الهوية، حيث لا يُحاكم الإنسان بناءً على أفعاله، بل بناءً على اسمه أو أصله. ما حدث للشيخ عثمان محمد جنفو، الرجل الثمانيني الذي أُعدم لمجرد إجابته عن سؤال حول أصوله، هو مثال صارخ على هذا النهج الدموي. لم يكن يحمل سلاحًا، لم يكن مشاركًا في أي صراع، كل ما كان يملكه هو اسمٌ لم يرقَ لجلاديه، وهويةٌ اعتُبرت في نظرهم جريمة. ولم يكن وحده، فبحسب شهادات موثوقة، قُتل تسعون مدنيًا آخرين بالطريقة ذاتها، ليس لأنهم ارتكبوا جرمًا، بل لأنهم ببساطة لم يكونوا “على هوى القتلة”.

ولم تقتصر الجرائم على عمليات الإعدام الميدانية، بل تجاوزتها إلى استخدام سلاح الطيران لاستهداف الأحياء المدنية على أساس عنصري. تقارير عدة أكدت أن طيران الجيش قصف مناطق مأهولة بالسكان، متذرعًا بوجود “عناصر معادية”، في حين أن الضحايا كانوا من المدنيين العزل، الذين لم يكن لهم ذنب سوى أنهم ولدوا في مناطق تعتبرها القيادة العسكرية “معاقل للعدو”. هذه الممارسات تعيد للأذهان جرائم القصف العشوائي الذي استخدمته الأنظمة القمعية في أماكن عدة حول العالم، مثل قصف نظام الأسد للمدن السورية، أو الغارات التي استهدفت مسلمي البوسنة في التسعينيات.

ومن أبشع الجرائم التي ارتُكبت في الآونة الأخيرة تلك التي نفذتها كتائب البراء بن مالك، وهي ميليشيا إسلامية متحالفة مع الجيش السوداني، حيث قامت بعمليات تطهير عرقي بشعة، استهدفت فيها السكان على أساس هويتهم العرقية. في مدينة ود مدني، التي شهدت سقوطها في أيدي الجيش، قامت هذه الميليشيات بذبح المدنيين العزل، وبقر بطون النساء الحوامل، وقتل الأطفال بلا رحمة. في الكنابي، التي يسكنها الآلاف من العمال الزراعيين وأسرهم، كانت المجازر أكثر وحشية، حيث تم إعدام العائلات بالكامل، وحرقت منازلهم في مشهد يذكّر بالإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا عام 1994.

تشير التقارير إلى أن عدد القتلى في السودان منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023 تجاوز 50,000 مدني، مع نزوح أكثر من 14 مليونًا، مما يفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد. من بين هذه الانتهاكات، برزت أعمال العنف التي ارتكبتها “كتائب البراء بن مالك”، حيث تم تنفيذ إعدامات ميدانية بحق عشرات الشبان في شمال الخرطوم، متهمةً إياهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع، رغم عدم وجود أي دليل على ذلك.

وفي ظل هذه الانتهاكات، يبرز مفهوم “قانون الوجوه الغربية”، وهو نهج غير معلن لكنه متبع على نطاق واسع، حيث يتم استهداف الأفراد بناءً على ملامحهم أو انتمائهم الجغرافي. هذا القانون غير الرسمي يجعل من لون البشرة، اللهجة، أو حتى ملامح الوجه سببًا كافيًا للاعتقال أو التصفية. وقد شهد السودان تطبيقًا واضحًا لهذا النهج في عدة حروب سابقة، حيث كان الاشتباه قائمًا على الهوية البصرية وليس على الأدلة الفعلية.

لقد علمنا التاريخ أن التواطؤ مع الجريمة، بالصمت أو التبرير، لا يؤدي إلا إلى مزيد من القتل. في الحرب الأهلية الإسبانية، وقف الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا في وجه الفاشيين، فكانت كلماته الأخيرة قبل أن يُقتل: “في النهاية، سيُحاسب الجميع”. هذا ما يجب أن يدركه العالم اليوم، أن الصمت عن هذه الانتهاكات هو مشاركة ضمنية فيها، وأن الإفلات من العقاب لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد المجازر.

في التاريخ الإسلامي، يُروى عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟” هذا التساؤل يسلط الضوء على أهمية العدالة والمساواة بين البشر، ويدعو إلى رفض الظلم والاستبداد.

أما الشاعر العربي القديم فقال:

إذا جار الأمير وحاجباه
وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ
لقاضي الأرض من قاضي السماء

الضمير العالمي يجب أن يصحو أمام هذه الفظائع. الدول العربية والإسلامية والغربية مسؤولة أخلاقيًا عن اتخاذ موقف واضح ضد هذه الجرائم. لا ينبغي أن تظل المصالح السياسية والاقتصادية عائقًا أمام حماية المدنيين في السودان. يجب فرض عقوبات صارمة، ووقف أي دعم للأطراف المتورطة في الانتهاكات، وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة الدولية.

إن استمرار هذه الجرائم دون رادع يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي في السودان ويؤدي إلى مزيد من الفوضى والدمار. يجب أن يتكاتف المجتمع الدولي لمنع تكرار مآسي التاريخ، وضمان احترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية في السودان وفي جميع أنحاء العالم.

إن الدماء التي تُسفك اليوم لن تجف إلا بالعدالة، ولن تُمحى آثارها إلا حين يدرك الجميع أن الإنسانية لا تُجزأ، وأن القتل تحت أي مبرر هو جريمة لا تُغتفر. “إذا مات العدل، فلا فرق بين الليل والنهار”، هكذا قال الشاعر الألماني فريدريش شيلر، وهكذا يثبت التاريخ دائمًا أن الظلم لا يبني دولة، وأن الدم لا يرسم حدودًا للحكم، بل يفتح أبوابًا للجحيم.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.