عند الساعة الخامسة صباحًا من يوم 15 أبريل، جلس جنرالات النظام في مخابئ داخل القيادة العامة خلف مكاتبهم، وأعلنوا ما اعتبروه “ساعة الصفر”. قالوا إن الحرب ستنتهي خلال أربع ساعات. لكن بعد أكثر من سنتين ونصف، تحولت تلك ( الساعة الأربعة ) إلى مقبرة مفتوحة، وصار الوطن كله مرآة مكسورة تعكس سذاجة الجنرالات وخوفهم من تاريخ يعود لا ليغفر، بل ليحاكم.
لم تكن تلك التصريحات سوى محاولة لإحياء وهم مركزي آيل للسقوط، جيش بلا مشروع، ونظام يتخفّى وراء شعارات دينية مستهلكة بينما البلد يتهاوى. النظام لم يخسر الأرض فقط، بل فقد مبرر وجوده. لم يكن دولة حقيقية في يوم من الأيام، بل سلطة على خراب دائم.
منذ الاستقلال، مارست الدولة المركزية في الخرطوم احتلالًا داخليًا باسم الوطنية. لا شيء جمع السودانيين سوى القمع، ولا رابط ربط الهوامش بالمركز إلا الموت و النهب والإذلال. الجنوب لم ينفصل؛ بل لم يكن يومًا جزءًا من الدولة. دارفور انتفضت لأن الموت بدا أكثر كرامة من الصمت، وجبال النوبة صمدت لأن ما كان يُعرض عليها في الخرطوم لا يستحق القبول.
تاريخ 1983 يعود كمرآة. حينها، لم يكن لدى الجيش الشعبي لتحرير السودان سوى بنادق قديمة، لكن بإرادة وتحالفات وتكتيكات عصابات حوّل الصراع إلى استنزاف. من كبويتا إلى نمولي، ومن كاجوكاجي إلى خور إنجليز، انتصر جيش الهامش على الجيوش المصقولة. في نهاية التسعينات، صار جيش الخرطوم محاصرًا في جوبا، لا يخرج إلا ليتلقى الصفعات. وبعد عقدين، ها هو يكرر أخطاءه تحت اسم مختلف، أمام تحالف أكثر نضجًا، وامتدادًا، وجرأة على هدم ما تبقى من مركز متعفن.
تحالف “تأسيس”، الذي يضم الحركة الشعبية، والدعم السريع، و حركة العدل و المساواة وقوى سياسية مسلحة ومدنية، لم يخرج من فراغ، بل من تراكمات لمقاومة متجذرة. هو تحالف يحمل السلاح، لكنه يحمل مشروعًا أعمق: إعادة تعريف الدولة نفسها، لا كعاصمة أبارتهايد بل كعدالة موزعة. في المقابل، لم يبقَ للنظام سوى مرتزقة، وكتائب فقدت فعاليتها، وإعلام يبيع انتصارات وهمية فوق خرائط متهالكة.
الجيش الذي كان يفترض أن يحمي الوطن، غرق في حماية منظومة فساد. لا عقيدة، لا استراتيجية، فقط أوامر بالقصف و استعمال سياسة الأرض المحروقة و الأسلحة المحرمة دولياً . أما خصومه، فقد تعلموا من تجربة الجيش الشعبي: لا حاجة لمعركة كبرى، بل يكفي إنهاك العدو، فضحه، وخنقه أخلاقيًا. الانسحاب يصبح هجومًا، والتراجع يصير إعادة تموضع. هذه معركة وعي، وشرعية، وتاريخ.
التحولات العسكرية، الدعم الإقليمي، وتآكل شرعية المركز تشير جميعها إلى أننا نعيش سقوطًا بطيئًا لمنظومة انتهت صلاحيتها. النظام يحفر قبره بيده، ويرقص فوق هاوية بلا قرار. حتى حلفاؤه باتوا يرونه عبئًا لا ورقة ضغط. العالم يدرك أن بورتسودان تمثل ماضٍ فاشل، لا مستقبلًا محتملًا.
من يراهن على أن السودان سيعود لما قبل 15 أبريل، كمن ينتظر النهر ليجري إلى الوراء. الخرطوم لم تسقط كمدينة، بل كمفهوم. انتهى عهد المركز المطلق، وجاء زمن من قرروا كتابة التاريخ بأيديهم. الحرب الجارية ليست مجرد اقتتال، بل تصفية نهائية للنموذج الاستعماري الداخلي وبداية لبناء بديل من رحم الهامش.
قادة النظام يمكنهم الكذب على كاميراتهم، إصدار بيانات النصر، والتصوير على ركام الخراب و الحرب الكميائية ، لكنهم يعرفون أن الهزيمة وقعت، لا فقط عسكريًا، بل أخلاقيًا وتاريخيًا. حين يُرفع السلاح ضد الشعب، خوفًا من المحاسبة، لا يكون من رفعه جيشًا… بل عصابة.
السودان يتغير. ليس بإرادة المركز، بل لأن الأطراف لم تعد تقبل الموت صامتة. التاريخ لا يرحم الأغبياء. وها هو يكتب فصله الأخير: من بورتسودان تصاعد دخان الهزيمة، ومن جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق انطلقت شرارة وطن يُكتب من جديد، لا بدماء الانتقام، بل بعدالة الحياة.
هذه ليست نهاية الحرب، لكنها نهاية الوهم. نهاية دولة لم تكن سوى جهاز أمني بعمامة، وخزانة فساد ببزّة. والمستقبل؟ يُكتب الآن، لا في مكاتب الجنرالات… بل في الميدان، حيث قرر الناس أخيرًا ألا يعيشوا عبيدًا بعد اليوم.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.