الكــوادر بلا حقــوق، والــمرضى بــلا دواء. فــمن يـــغسل مــن؟
أ/سلــــيـم محمــــد عبداللــه
حيــن يخــتلط وجــع الإنــسان بفـــساد الإدارة
مــنذ الخامــس عــشر من أبريل 2023،
اليوم الذي انقلب فيه الوطن إلى ساحة حربٍ مفتوحة،
وقفت الكوادر الطبية في الصفوف الأولى لا تحمل سلاحًا، بل تحمل ضميرا.
تحت نيران الخطر وانقطاع الموارد، ظلوا يداوون الألم، ويغسلون الجسد المريض بأملٍ لا ينطفئ.
لكن في مراكز غسيل الكلى بولاية الخرطوم،
حيث تدور آلات الحياة على إيقاع الوجع،
تغسل الأجهزة الدم، بينما يغسل الفساد كل معنى للعدالة والكرامة.
الكوادر التي ضحّت بالحياة، تُكافأ اليوم بالتجاهل…
والمريض الذي يصارع الموت، يُترك في مواجهة الفشل مرتين: فشل الجسد وفشل الدولة.”
تضــحيات مــنذ أبريل.. وصــمت يكافــئ النـبل بالإهــمال
منذ اندلاع الحرب، ظل العاملون في مراكز غسيل الكلى مرابطين في أماكنهم،
يُقدمون الخدمة رغم انقطاع الإمدادات، وتراجع الدعم، وتزايد الخطر.
لم يتركوا المرضى، ولم يغادروا مواقعهم.
لكن الدولة، أو بالأحرى الإدارة، تركتهم وحدهم في مواجهة المجهول.
تأخرت الرواتب لأكثر من ستين الي تسعين يومًا.
توقفت الحوافز.
وغابت أي خطة لدعمهم نفسيًا أو ماديًا.
تحوّلت المراكز إلى فضاءات منهكة المرضى يكابدون الألم،
والكوادر تصارع ضغوط المعيشة،
حتى أصبح «الواجب المهني» نوعًا من البطولة اليومية التي لا يراها أحد.
المــرضـــى بيـــن أنيـــن الغســيل وصــمت الأجــهزة
المرضى الذين يعانون من الفشل الكلوي أصبحوا ضحايا الإهمال المركّب:
نقص المحاليل، انقطاع الأجهزة، غياب التعقيم،
وتزايد معدلات العدوى الفيروسية داخل غرف الغسيل.
تدهورت البيئة الصحية إلى حدٍ باتت فيه جلسات الغسيل نفسها خطرا على الحياة.
وتفاقم الألم مع غياب الرؤية الإدارية التي تُنظم أو تُوجّه الخدمات الطبية.
في مراكز الغسيل، لا يغسل الدم فحسب، بل تغسل أيضًا حقوق الناس، وأحلامهم، وأصواتهم التي خنقها الصمت الإداري.”
فـــساد إداري ومـــيزانيـــات تائــــهة
ملف الكلى في الخرطوم لم يعد شأناً طبيًا؛ بل أصبح مرآة لفساد منظمٍ وممنهج.
تُدرج ميزانية الكلى ضمن ميزانية الطوارئ وزراعة الكلى،
لكن أثرها في الميدان يكاد يكون معدومًا.
الحوافز لا تصل، والمرتبات تتأخر،
والكوادر تصنّف وفق الولاءات السياسية لا وفق الكفاءة المهنية.
تتحول المطالبة بالحقوق المشروعة إلى تهمة “انتــماء ســياســي”،
وتدار المراكز بمنطق العلاقات والمكاسب، لا بمنطق العدالة والشفافية.
هذه ليست أخطاء عابرة، بل سياسة إدارة تُكافئ الفاسد بالصمت، وتعاقب الشريف بالحرمان.
تضـــحيــات تــقابــل بالخـــذلان
منذ أبريل 2023،
والكـوادر الطــبية تقـــدم أعــظم صـــور التـــضحية الوطنيـــة:
تعمل تحت القصف، وفي بيئة غير آمنة، وبأدوات شحيحة.
لكنّها تُواجه اليوم حربًا أخرى: حرب الفساد، وسوء الإدارة، وغياب العدالة.
كل يوم يقضيه الطبيب أو الممرض دون راتب،
هو يوم يُقضى فيه على ما تبقى من روح المهنة.
وكل مريضٍ يُحرم من جلسة غسيل بسبب نقص الإمداد،
هو شاهد جديد على فشل منظومة لا ترى في الإنسان قيمة ولا في الكرامة مبدأ.
المــــلف الـــذي يجـــب أن يُــــفتح الآن
لقد طفح الكيل.
ولا بد من إعادة فتح ملف الكلى بكل تفاصيله:
تحقيق شفاف في أوجه الصرف وتوزيع الحوافز.
إعادة هيكلة إدارة الكلى على أساس الكفاءة لا الولاء.
تحسين بيئة العمل وتوفير الحماية للعاملين.
تأمين الإمدادات الطبية وضمان استمرار جلسات الغسيل دون انقطاع.
مراجعة ميدانية لمعدلات العدوى ومصادر انتشارها.
هذه الإجراءات ليست رفاهية،
بل ضرورة لإنقاذ ما تبقى من أرواحٍ وضمائر.
حــين يغــسل الضمــير بالمبـــررات
لقد تجاوزت الأزمة حدود العجز الفني،
وصارت أزمة ضميرٍ وإدارةٍ وقيم.
حين تـغسل الكلى بأجهزةٍ متآكــلة،
ويُغسل الضمير بخطابات التبرير،
يبقى السؤال مــعلّقا على جدار الحقيقة:
مــن يغـــسل مـــن؟
أهي الأجهزة التي تنقذ الجسد؟
أم الضمائر التي تحتاج إلى غسيلٍ عاجلٍ من الفساد والإهمال؟
الملف مفتوح والوجع مستمر
حتى تغسل الإدارة من الفساد،
ويُعاد للحياة الطبية نبضها الشريف،
ستــبقى مــراكز الكــلى في الخرطـــوم رمــزا صامتا لأمة تبحث عـن ضــميرٍ لــم يصــدأ بــعد
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.