منذ فجر الإستقلال ظل السودان يعيش في قبضة المؤسسة العسكرية التي ورثت عن المستعمر أدوات السيطرة فبعد أن غادر المستعمر أرض السودان بقي حاضراً في عقل الدولة و مؤسساتها عبر نموذج حكم استعلائي يرى في الشعب رعية لا شريكاً و في السلطة وصاية لا خدمة.
تلك كانت البذرة التي أنبتت الانقلابات العسكرية المتتالية و أجهضت كل ثورات التحول الديمقراطي قبل أن يكتمل.
المؤسسة العسكرية السودانية لم تنشأ بوصفها جيشاً وطنياً بل كامتداد مباشر للمنظومة الاستعمارية البريطانية–المصرية التي أسست جيش السودان لحماية مصالحها لا لحماية الشعب فصممت الجيش لضرب القبائل و قمع الثورات و تأمين طرق التجارة و الموارد و حين ورثه الضباط بعد الاستقلال ورثوا معه تلك العقلية التي ترى في المواطن موضوعاً للقمع و السيطرة لا ذاتاً للحرية و الكرامة.
هكذا انتقل ظل المستعمر إلى عقل الدولة المستقلة فتحول الاستعمار الخارجي إلى استعمار داخلي يرتدي بزّة عسكرية و يتحدث باسم المواطن و الوطنية.
في ظل هذا الواقع وجدت الأحزاب السياسية نفسها جزءاً من التدويرة نفسها لا بديلاً عنها فبنية هذه الأحزاب الهشة التي ارتكزت على الولاءات الطائفية و العشائرية لم تستطع تجاوز إرث الوصاية الذي خلفه الإستعمار وورثتهم معاً.
فبدلاً من أن تبني مشروعاً وطنياً ديمقراطياً تورطت في سباق نحو السلطة و شكلت تشكيلاتها المسلحة الخاصة و كرست بذلك ثقافة العنف السياسي كأداة للتغيير.
هكذا تحالفت الطائفية مع العسكر و المركز مع الامتياز لتدار البلاد بعقل واحد: عقل الهيمنة. النتيجة كانت كارثية: دولة مفككة، شعب منهك و ثقافة سياسية تعيد إنتاج العنف. لم يعد السلاح أداة للدفاع عن الوطن بل وسيلة لتقسيمه.
أرهق الهامش و استخدم أبناؤه وقوداً لحروب عبثية يعبأون بخطابات وطنية زائفة ليقاتلوا بعضهم نيابة عن المركز. بهذا تحولت الدولة إلى ميدانٍ دائم لإعادة إنتاج السيطرة تماماً كما أراد المستعمر قبل عقود. لكن حرب الخامس عشر من أبريل حملت معها تحولاً نوعياً.
فهي لم تندلع في الأطراف كما كان يحدث تاريخياً بل في قلب العاصمة، حيث واجه أبناء الهامش المركز ذاته لا بعضهم البعض.
هذه الحرب ليست مجرد صراع على السلطة بل لحظة انفجار وعي تاريخي جديد أدرك فيه أبناء الهامش أن مركز الأزمة ليس في الأطراف بل في البنية المركزية التي ورثت الاستعمار و فكره.
و للمرة الأولى لم يعد “الهامش” جغرافياً فحسب بل صار وعياً سياسياً يرفض الإقصاء و يريد إعادة تعريف الدولة.
و مع ذلك يجب القول إن بعض الحركات المسلحة — رغم عدالة قضاياها — وقعت أحياناً في فخ إعادة إنتاج ذات منطق القوة الذي كانت تقاومه.
تحول السلاح في بعض اللحظات من وسيلة للتحرر إلى وسيلة سلطة جديدة و أصبح التمرد ذاته أداة تفاوض على نصيب من الدولة لا على تغييرها.
هذه المفارقة تكشف أن الأزمة السودانية ليست فقط في من يحكم، بل في كيف نمارس الحكم و في بنية الدولة السودانية التي تجعل السلاح أقصر الطرق إلى الكرسي.
السودان اليوم يعيش صراعاً بين وعيين: وعي قديم تشكل من رحم الإستعمار والانقلابات والطائفية و وعي جديد يتشكل من الهامش ومن رحم المعاناة، يسعى لبناء وطن قائم على المشاركة لا الغلبة و على العدالة لا الامتياز.
فالمركز الذي صنعه الإستعمار لم يكن جغرافياً فحسب بل مركزاً ثقافياً و اقتصادياً و هيكلياً يحتكر السلطة والثروة و يحتقر التنوع.
و تفكيك هذا المركز لا يعني تدمير الدولة بل إعادة بنائها على أساس المساواة بين مواطنيها. إن التحرر الحقيقي في السودان لا يعني فقط خروج المستعمر الذي غادر قبل عقود بل تحرير الدولة من الإستعمار الداخلي — من ذهنية العسكر و الطائفية والوصاية التي أرهقت جسد الوطن.
فالسلام لن يستدام و الديمقراطية لن تزهر ما لم يكتب عقد إجتماعي جديد تصاغ فيه أسس الدولة من الهامش هذه المرة لا من المركز.
عقد يؤسس لدولة المواطنة و العدالة يكون الشعب مصدر الشرعية فيها لا ضحيتها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.