مواقف متغيرة أم مبادئ ثابتة؟ قراءة في خطاب دعم حكومة الأمر الواقع المرتقبة

ياسمين آدم المصري

في لحظة سياسية حرجة تمر بها البلاد، طُرح مؤخرا تصور موجز للدكتور كامل إدريس حول مشروع الحكم الانتقالي وهيكلة الحكومة المرتقبة، وهو طرح أثار جدل بين التفاؤل والتشكيك. إذ انقسم الرأي بين من يرى في هذا المشروع بصيص أمل لسد الفراغ السياسي، وبين من يعتبره مجرد أحلام بعيدة عن واقع معقد وشائك.

لكن ما يستدعي الوقوف والتأمل، ليس فقط في ما تم طرحه، بل في طبيعة الخطاب المصاحب له، والذي يدعو لعدم انتظار نجاح الحكومة المرتقبة بل السعي لعدم فشلها، بدعم الرؤى أو بالنقد البناء، في محاولة لتبرير التعاون مع سلطة الأمر الواقع.

هذه الحكومة المرتقبة غائبه عنها الشرعية وهي ليست نتاج عملية ديمقراطية، ولا تمثل امتداد للوثيقة الدستورية التي تم تعطيلها بقرار أحادي إثر انقلاب 25 أكتوبر 2021. وبالتالي، الحديث عن دعمها بذريعة “سد الفراغ” ليس إلا غطاء سياسي لشرعنة واقع انقلابي تم فرضه بقوة السلاح، لا برضا الشعب أو توافق القوى الثورية. هذا الطرح، وإن بدا في ظاهره حريصا على المصلحة الوطنية، إلا أنه في جوهره يمنح مشروعية لسلطة تفتقد للأساس الدستوري، ويقايض مبادئ الثورة بالمصالح المؤقتة.

المفارقه اللافتة أن ذات الأصوات التي تطالب اليوم بدعم الحكومة القادمة، كانت في الأمس القريب ممن ساهموا في تقويض حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، وهي حكومة جاءت نتيجة شرعية الثورة واتفاق سياسي واضح مع المجلس العسكري، نالت دعم داخلياً وخارجياً رغم كل تعقيدات المرحلة.
لقد واجهت حكومة حمدوك حرباً شعواء، لم تأت من الفلول فقط، بل من داخل البيت الثوري ذاته، تحت شعارات “لا تفاوض لا شراكة” وغيرها من المزايدات الثورية التي لم تطرح بديلاً عملياً، بل فتحت الباب واسعا للانقلاب العسكري.
فلماذا إذا قطعت الطريق أمام حكومة شرعية، ويفتح الآن للحكومة القادمة غير المنتخبة طريق الدعم والتسهيل؟ أليس هذا تناقض صارخ؟ أليس من الأولى الاعتراف بالأخطاء التي أوصلتنا إلى هذا الانقلاب اللذي قادنا الي حرب مهلكه بدلا من إعادة تدويرها في خطاب ناعم؟

في بعض الندوات والحوارات السياسية، يغيب النقد الحقيقي لصناع القرار الحاليين، ويستبدل بخطابات إنشائية لا تحمّل السلطة القائمة مسؤولية تعقيد المشهد أو تعطيل الانتقال. بل إن بعض هذه المنابر باتت تقدم نفسها كجزء من “العقل الوطني” الحريص على الدولة، بينما تمارس تبريرا غير مباشر لتغييب الوثيقة الدستورية والعملية السياسية.
هذا الخطاب يؤسس لمبدأ من يتفق معنا نرفعه، ومن يختلف معنا نسقطه، بغض النظر عن مشروعيته أو شرعيته. إنها انتقائية سياسية تفقد الفعل السياسي معناه، وتحول المواقف إلى أدوات ظرفية لا مبادئ ثابتة.

التجربة السودانية السياسية الأخيرة كشفت أزمة عميقة في بنية الفعل السياسي. فالعديد من القوى لم تحسم موقفها من القيم المؤسسة للعمل العام هل الولاء للمبادئ أم للمواقع؟ هل الأولوية للديمقراطية أم للتكتيك؟ هل من السهل أن نتحالف مع العسكر حينا، وندعو لإسقاطهم حينا آخر؟
لقد بتنا أمام مشهد يتكرر فيه ذات الخطأ حين تتفق القوى المدنية مع طرف، تُسهل له الطريق للحكم، وحين تختلف معه، تبدأ معركتها ضده دون تقديم بديل. وهذا ما حدث مع حكومة حمدوك، وما قد يتكرر مع الحكومات القادمة.

من حق الجميع أن يطرح رؤى سياسية، ولكن من واجبنا الوطني أن نُعري التناقضات، وأن نطالب بوضوح سياسي وأخلاقي. لا يمكن أن يُطلب منا دعم حكومة انقلابية لأن “الفراغ خطير”، بينما في ذات الوقت تم تقويض حكومة شرعية كانت تسعى لمعالجة الأزمة بمفهوم دولة مدنية ديمقراطية.
إن دعم أي حكومة يجب أن يستند على شرعية سياسية، ودستورية، وتفويض شعبي، لا على توازنات القوة المفروضة. وأي خطاب يدعو لغير ذلك، هو جزء من مشكلة الانقلاب وليس من حلها.
فالمبادئ لا تتبدل بتبدل المصالح، ومن اختار الكرامة والثورة، لا يمكنه أن يسكت على إعادة إنتاج الشمولية بلباس جديد.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.