المرآة التي رفضت الظل: القائد ياسر عرمان … وعمار في مرآةٍ لم تَعُد تعكس أحدًا

عمار نجم الدين

في سودانٍ يختزل المختلفين في ظلال سابقيهم، تُرفع مقارنتي بياسر عرمان كسيفٍ فوق رأسي. لكنّنا لسنا وجهًا واحدًا ينعكس في مرآةٍ واحدة. هو خرج من كهف المركز الأيديولوجي ليدعو إلى إصلاحه، وأنا خرجت من الكهف ذاته لأهدم أسسه. هو رأى في الاقتصاد محرّك الصراع، وأنا أراه صراعًا بنيويًا ثقافيًا عرقي يستدعي التفكيك. هو سعى لإدخال المهمّشين إلى نادي السلطة، وأنا أطالب بهدم النادي من أساسه.
هذه ليست سيرة خلافٍ شخصي، بل افتراقٌ معرفيّ بين رجلين احترم كلٌّ منهما تاريخ الآخر، لكن مرآة كلٍّ منهما رفضت أن تعكس سوى وجه رؤيته. لأنني، ببساطة، لا أسكن ظل أحد.
في السودان، حين ترفع صوتك قليلًا، تنهال عليك المقارنات من حيث لا تحتسب.
“ده يا ياسر عرمان تاني ؟”
تُقال الجملة كأنها سيفٌ فوق رأسك، أو لعنةٌ في سيرتك، أو محاولة لشدّك إلى ظلالك القديمة.
لكن الحقيقة أنني، مع كامل الاحترام لتاريخ الرجل، لست ياسر عرمان… ولن أكون.
أنا لا أكتب الآن عن خلاف بين شخصين، بل عن فارقٍ بين جيلين، ومدرستين فكريتين، وتجربتين خرجتا من قلب المركز الأيديولوجي للسلطة، واختارتا التمرّد عليه بوسيلتين مختلفتين تمامًا.
ياسر جاء إلى الحركة الشعبية من تنظيمٍ ماركسي يرى أن الاقتصاد هو المحرك الأساسي للصراع، وقد نشأ مع قادة كبار نشؤوا علي يد الدكتور جون قرنق أمثال القادة وعبد العزيز الحلو، وفاقان أموم، وياسر جعفر، ومحمد الحبوب و ادورد لينو .
وهؤلاء قادتنا وأسرتنا الفكرية والنضالية، فلا تعلو العين على حاجبها. ومن باب الأدب والاحترام، أعترف بهذا التاريخ، وأتضائل أمام ما قدّموه من نضال و ياسر عرمان احدهم ، وإن احتدّ الخلاف يومًا.
أما أنا، فقد تشكّلت رؤيتي في مدرسة أخرى؛ مدرسةٍ ترى أن الصراع في السودان ليس اقتصاديًا فحسب، بل صراعٌ بنيويّ ثقافيّ عِرقيّ رمزي، يتغلغل في عمق تشكّل الدولة نفسها.
هذه الرؤية أثّرت على طريقة تفكيري، تمامًا كما أثّرت المدرسة التي نشأ فيها ياسر على طريقته.
ياسر تمرّد على المركز طمعًا في إصلاحه، بينما أنا تمرّدت عليه لهدمه وتفكيكه، وتأسيس صرحٍ إنسانيٍّ سودانيٍّ جديد على أنقاضه.
هو رأى في الإصلاح وسيلةً للتغيير، وأنا رأيت في التفكيك أداةً لا غنى عنها لإنهاء مشروع الدولة الاستعمارية الجلابية التي ما تزال تحكمنا بواجهات مختلفة.
هو أراد أن يدخل المهمّشين إلى نادي السلطة، بينما أنا أطالب بإغلاق النادي كله، وبناء فضاء آخر لا تكون فيه العضوية امتيازًا موروثًا.
نحن لا نختلف في الأدوات فقط، بل في معنى السلطة نفسها.
ياسر يرى إمكانية إصلاح المؤسسة العسكرية، وأنا أراها تجسيدًا عنيفًا للهوية التي نريد التحرّر منها.
ياسر يحترم التراتبيات الروحية والاجتماعية، بينما أراها امتدادًا ناعمًا لسلطة رمزية تسند القهر ببخور الطاعة.
هو يريد إصلاح البيت، وأنا أسأل: من صمّم هذا البيت أصلًا؟ ولمصلحة من؟
ومنذ العام 2017، لم يعُد ياسر عضوًا في الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، التي أنتمي إليها.
لديه مشروعه السياسي المختلف، وله موقفٌ واضحٌ في رفض الكفاح المسلح، وهو موقف نحترمه وإن اختلفنا معه.
أما أنا، فموقفي واضح: أؤمن أن السلاح، حين يرتبط بمشروع تحرريٍّ إنساني، هو أحد أدوات تغيير البنية، لا أداةٌ للاستعراض، وأحد سُبل العدالة حين تُغلق الأبواب الأخرى.
لا أطمح إلى خلافة ياسر، ولا أزاحمه على تاريخه.
لا أطلب أن أكون امتدادًا له، ولا ظلًّا لصورته في خيال الآخرين.
هو رجلٌ خاض تجربته باختياره، وأنا أخوض تجربتي بشروطي.
هو مجده ماضٍ كبير، وأنا مشروعي أسئلةٌ مستقبلية.
وإنني حين أكتب هذا النص، لا أكتبه ضده، بل لأقول للذين يصطادون في الماء العكر: اهدأوا، لا أنا بديله، ولا هو بحاجة إلى حارس بوابة.
كل ما في الأمر أنني خرجت من نفس الكهف الذي خرج منه،
لكنني فضّلت الهدم و البناء على الترميم
عرمان يكتب تاريخه، وأنا أكتب خطابي.
وما بيننا ليس تنافسًا، بل افتراقٌ معرفيٌّ … ولا تُخفيه المجاملات.
فأنا – ببساطة – لا أسكن ظل أحد.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.