لم تعد الحروب مرتبطة فقط بالرصاصة والقصف المدفعي، بل باتت تترك أثرًا نفسيًا بالغًا على الأطفال والنساء. في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، لا تزال آثار الحروب تنهش أجساد الناس وأرواحهم، لكن الألم الأعمق والأطول أمدًا هو ما يعانيه الأطفال والطلاب والنساء، نتيجة الصراعات المسلحة، والقصف الجوي، والحرمان المنهجي من الحقوق، مما أدى إلى تحطيم حياتهم ونفسياتهم.
لقد تحوّلت المدارس إلى أنقاض، والأسر إلى أشلاء مبعثرة، بفعل الجيش وميليشياته، التي لم تكتفِ بـ”بقر البطون”، بل بطرد الناس من بيوتهم ومساكنهم. وتحول الأطفال إلى شهود على رعب لا يوصف. هؤلاء لا يحتاجون فقط إلى الغذاء والمأوى، بل إلى من يرمّم إنسانيتهم من الداخل.
في لحظات القصف الجوي، كان الطيران الحربي التابع للجيش يحلق في سماء دارفور وكردفان والنيل الأزرق، بينما كان الأطفال في المدارس وطلاب الجامعات ينظرون إلى الأعلى، يشاهدون الطائرات وهي تُلقي البراميل المتفجرة والصواريخ القاتلة. سقطت المدارس على رؤوسهم، وتحولت قاعات الدرس إلى قبور جماعية. حدث ذلك في مدارس بالكومة ونيالا والضعين.
لم يكن ذلك مجرد قصف، بل جريمة نفسية محفورة في الذاكرة، جريمة لن تُمحى بسهولة من قلوب الأطفال ووجدان الطلاب. لقد عايشوا الرعب وهم على مقاعدهم، ورأوا الموت يهبط من السماء بلا رحمة، ولن ينسوا أن هذا العنف جاء من طيران جيش يُفترض أن يحميهم، لا أن يلاحقهم بالصواريخ.
إنه سلوك مشين سيظل وصمة في ذاكرتهم، ولن يندمل أثره إلا بعد سنوات طويلة من الرعاية النفسية، والاعتراف بالألم، وتحقيق العدالة.
كثير من الأطفال في هذه المناطق، وخاصة الأيتام وفاقدي السند، يعيشون في عزلة نفسية واجتماعية خانقة. لا يجدون من يحتضنهم، أو يسمع صراخهم الداخلي، أو يرافقهم في طريق العودة إلى الحياة الطبيعية. كثيرون منهم فقدوا ذاكرتهم المدرسية، وضاعت في داخلهم القدرة على التركيز، أو حتى الحلم. الطلاب كذلك، ممن ما زالوا على مقاعد الدراسة، هم في واقع الأمر جالسون على الرماد، دون أي رعاية نفسية أو دعم اجتماعي، وهو ما يهدد مستقبلهم بالكامل.
أما النساء، فهن يتحملن عبء هذه الكارثة بصمت ووجع. نساء فقدن المعيل، وتحوّلن فجأة إلى معيلات لأسر مدمّرة، في بيئة لا تُنصفهن ولا تحميهن، وفي ظل غياب كامل لأي رعاية اجتماعية أو نفسية منظمة.
وتشير التقديرات الواقعية إلى وجود آلاف الأطفال والنساء في مناطق بدارفور وكردفان والنيل الأزرق، ممن يحتاجون إلى خدمات رعاية اجتماعية متكاملة، تضمن لهم التعافي من العزلة النفسية، وتساعدهم على استعادة توازنهم، والاندماج في المجتمع من جديد، حتى يصبحوا عناصر فاعلة تسهم في نهضة الأمة مستقبلًا، لا عبئًا مرميًا على هامش المعاناة.
في ظل هذا الواقع، فإن حكومة التأسيس المنتظَرة مطالَبة بتحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والمؤسسية تجاه هذه الفئات. ويأتي في مقدمة ذلك ضرورة إعادة بناء المدارس، ليس فقط كمؤسسات تعليمية، بل كمراكز للشفاء والرعاية النفسية. يجب أن تُنشأ داخل كل مدرسة مكاتب متخصصة في الدعم النفسي والاجتماعي، بإشراف كوادر مدرَّبة في العلاج النفسي المجتمعي، والتعامل مع الأطفال والطلاب المتضررين من الصدمات، بما في ذلك من شهدوا العنف، أو فقدوا ذويهم، أو يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة.
لا بد أن تُدرج وزارات التربية، والشؤون الاجتماعية، والصحة في برامجها خططًا متكاملة للتكفّل بالأيتام وفاقدي السند، بما يشمل توفير بيئة تعليمية راعية، وأدوات دعم نفسي مستدام، ومراكز خارجية للمتابعة والعلاج. كما يجب توفير منح دراسية، وتأمين صحي، ومرافقة نفسية طويلة الأجل لهؤلاء الأطفال، فبناء مجتمع متماسك يبدأ من رعاية أضعف أفراده.
إن تجاهل هذا الجانب، أو تأجيله، لا يعني إلا زرع بذور أزمة مستقبلية أشد قسوة، لأن الأطفال الذين لا يُداوَون اليوم، قد يصبحون ضحايا دائمين أو أدوات عنف غدًا. والسلام الحقيقي لن يتحقق إلا إذا التقت العدالة بالتعاطف، والخطط بالتنفيذ، والإنصاف بالجرأة على الاعتراف.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.