بائعة في سوق الملجة الأماني الطويل .. خبيرة الدولة المصرية عالماشي (١-٣)
بقلم: عمار نجم الدين
في السودان، حين نقول “الملجة”، لا نعني سوقًا فحسب، بل عقلاً ومزاجًا وأسلوب تفكير. الملجة ليست فقط مكان بيع الخضروات، بل مدرسة كاملة في التعامل مع الواقع: كل يوم سلعة، كل ساعة مزاج، لا ثابت إلا الربح، ولا مبدأ سوى ما يطلبه الزبون. هناك، لا أحد يبيع حسب عقيدته، بل حسب حرارة السوق، و”الاُوطه المجنونة اليوم ماشة أم الملوخية أم الباتنقان الاسوِد أم الكرفس أم البادونس ”.
هكذا تبدو أماني الطويل تمامًا.
تلك التي توصف في الإعلام العربي بـ”الخبيرة في الشأن السوداني”، ليست سوى نسخة بيروقراطية من تاجر الملجة. تفتح ( شولاتها) كل صباح، تتفقد ما يتوفر من بضاعة: هل السوق يميل نحو الجيش؟ فلنمطره بالمديح. هل يدور المزاج حول “البراء بن مالك”؟ فلنصبّ عليهم ( جردلاً ) من الإدانات. هل المطلوب اليوم تقارير عن “الجيش الشرعي”؟ إذًا لنضع الإسلاميين في جيب ( الجَيبة أي الاسكيرت) ، ونخرج أوراق السيادة.
لكن من يشتري؟ ومن يدفع؟ أو بالأحرى: من يوجّه “العربة” في هذه الملجة المخابراتية التي تدّعي أنها استراتيجية؟
من المفارقات القاتلة أن الإدارة المصرية التي تحاكم عشرات الآلاف من الإخوان المسلمين التنظيم الارهابي و تسجنهم في ( سجن العقرب ) ، تُتتهم بقتل محمد مرسي من قبل جماعته داخل سجنه، ويحاكم محمد بديع، المرشد الثمانيني، حتى آخر قطرة من شيبته، هو النظام ذاته الذي يدعم جناحهم السوداني في بورسودان ويمنحهم غطاء الشرعية.
كيف تكون جماعة إرهابية في القاهرة، وشريكة في بور سودان؟
هل هو الفصام؟ لا، بل الملجة.
في مصر، جماعة الإخوان المسلمين “القطبية” متهمة بالإرهاب، وبأنها أفرزت تنظيمات التكفير و الهجرة ونظمت ضباط ( الفنية العسكرية ) و القاعدة وداعش ، وخرجت من تحت عباءة سيد قطب، المنظّر الأبرز لمبدأ “تكفير المجتمعات”، والملهم الأول للجهاد الإسلامي الذي اغتال السادات. أما في السودان، فجماعة البراء – التي لا تختلف كثيرًا من حيث العقيدة والولاء والمرجعية – تجد من يُبرر لها، أو يفتح لها الطريق على يد نفس الجيش الذي خرج من رحم الحركة الإسلامية في انقلاب 1989.
وهنا تدخل أماني الطويل، لا كمحللة، بل كـ”سمسارة سياسية”، تتجول بين الخنادق، وتحاول أن تبيعنا رواية من نوع جديد: أن الجيش السوداني شرعي، رغم أن قياداته نفسها كانت جزءًا من النظام القطبي الإسلامي الذي قاتلته مصر لعقود. أن “البراء” جماعة إرهابية، رغم أن عقيدتها نفسها هي العقيدة التي تسرّبت إلى المؤسسة العسكرية عبر ثلاثين عامًا من التمكين. أن الجيش منفصل عن الحركة الإسلامية، رغم أن ضباطه وملفاته وأمواله وسجونه كلها تحمل توقيع سيد قطب وتربيته.
في ليبيا، تحارب مصر الإخوان المسلمين وتدعم حفتر. في السودان، تدعم مصر جيشًا يتماهى عقائديًا وسلوكياً مع التنظيم الدولي للإخوان. وفي الحالتين، الخطاب واحد: “نحمي أمننا القومي”. ولكن أي أمن هذا الذي يقوم على هذا القدر من الازدواجية؟ أي دولة تلك التي تصادر شرايينها الأخلاقية لصالح ظرف تكتيكي؟ أي “استراتيجية” تلك التي تدور مع المصلحة حيث دارت، دون أن تحترم ذاكرة أو مبدأ؟
أماني الطويل لا تقدّم تحليلاً، بل تقرأ نشرة أسعار السوق المصري في السودان. يومًا تبيع لنا الجيش كبطل قومي، ويوما آخر تفرّق بين البراء والجيش وكأن أحدهما ولد في مكة والآخر في باريس. لا أحد منهم يعترف بأن البراء خرجت من قلب المؤسسة العسكرية التي حكمت السودان باسم الدين، وأحرقت القرى بالانتنوف ، واغتصبت النساء، وشردت الملايين. لا تذكر أماني الطويل أن جماعة البراء بن مالك هي ابن شرعي للجيش الذي دافعة عنه أماني الطويل في تصريها الأخير، وأن كل ما تفعله هو محاولة “فرز الطماطم من الشطة” في سلة واحدة فاسدة.
في النهاية، ما تفعله أماني الطويل ليس تحليلًا استراتيجيًا، بل تسويقًا عشوائيًا في ملجة المصالح المصرية و وتقاطعاتها الاقليمية . هي لا ترى السودان كدولة تسعى للتحرر، بل كرفّ من الخضروات، كل ما فيه قابل للتفاوضو البيع و الشراء : جيش، مليشيا، إسلاميون، علمانيون، لا فرق، المهم أن “الزبون يشتري”، وأن القاهرة تستريح و تفيض اليها مياه النيل و الودائع ) .
لكن السودان ليس مَلجةْ.
والسودانيون لم يعودوا زبائن وان السودان لم يعد دولة تحت الاستعمار الإنجليزي المصري.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.