عن تصريحات عرمان وبيان تنظيمه بعد إعلان حكومة السلام والوحدة من تحالف “تأسيس” او- حين يخشى الآباء من نضوج ابناءهم!

خالد كودي- الأراضي المحررة، كاودا

في لحظة تاريخية فارقة، أعلن تحالف “تأسيس” تشكيل حكومة السلام والوحدة، لا كإعادة إنتاج لحكومات السودان القديم، بل كترجمة سياسية لمشروعٍ طال انتظاره: مشروع السودان الجديد، القائم على العلمانية، المواطنة المتساوية، العدالة التاريخية والوحدة الطوعية. إعلانٌ كهذا، في سياق حرب مدمّرة، ليس مجرد مناورة ظرفية، بل إشارة إلى أن هناك قوى قرّرت أخيرًا التقدّم نحو المستقبل بدلًا من التحلّق حول أسئلة البدايات.

في المقابل، خرج علينا الاستاذ ياسر عرمان، أحد المساهمين التاريخيين في صياغة مشروع السودان الجديد رالترويج له لعقود، بتصريح ينضح بالارتباك، إذ يقول: “وجود حكومتين يهدد وحدة السودان.” وكأننا أمام نسخة مخففة من بيانات الأنظمة القديمة، التي كانت ترى في أي محاولة لتوزيع السلطة أو مساءلة المركز خطرًا على “الوطن”. تحالف “تأسيس” أعلن حكومة السلام والوحدة، محققًا أول خطوة عملية لترجمة مشروع السودان الجديد من الورق إلى الواقع، بينما يقف ياسر عرمان وبيان تنطيمه “التيار الثوري الديمقراطي” في زاوية التاريخ يصرخان: “وجود حكومتين يهدد وحدة السودان!” و الحق يقال، انه يعبر عن قطاع عريض من النخب السودانية ويتفق معهم القول- أي وحدة تلك التي يتحدثون عنها؟ أهي وحدة الخراب المركزي التي مزقت البلاد منذ 1956؟ أم وحدة القهر باسم الدين والعرق واللغة؟
هذا ليس موقفًا مبدئيًا، بل رد فعلٍ مأسور لسلطة المركز حتى بعد أن خلع عنها عباءته.
هل يريدونا ان نترك سلطة بورتسودان منفردة تفعل بنا ماتريد ام ماذا؟

من النص إلى الارتداد: حين يتنكّر المفكر لورقته الأولى:
لنتأمل قليلًا. ألم يكن منفستو الحركة الشعبية الام، الذي ساهم فيه ياسر عرمان، ينص على أن الوحدة الحقيقية لا تُبنى إلا على الاعتراف بالتعدّد ولاحقا بالحق في تقرير المصير؟ ألم تكن العلمانية/فصل الدين عن الدولة عند الحركة الشعبية هي الطريق الوحيد لضمان مواطنة متساوية لشعوبٍ عانت من الاضطهاد والتمييز؟
إذن، لماذا يتحوّل من ساهم في صياغة والترويج لهذه المبادئ إلى ناقدٍ متردد، بمجرد أن وُضعت المبادئ موضع التنفيذ؟
قد نجد الإجابة في تحليل أنطونيو غرامشي حين تحدّث عن “الكتلة التاريخية”، قائلًا إن النخب التي تفشل في إنتاج التحوّل البنيوي، تميل لا شعوريًا إلى التحوّل إلى حرّاس للأمر الواقع، حتى لو بدأوا يومًا كثوّار.

كيف يمكن للأستاذ ياسر عرمان، الذي قضى عمره بين نصوص المنفستو ومشروع السودان الجديد، أن يرتد اليوم ليحذرنا من قيام حكومة التأسيس؟ ادبيات الحركة الشعبية الام نفسه تنص على أن الدولة السودانية القديمة يجب أن تُستبدل بكيان جديد يعكس الإرادة الحرة للشعوب ويضمن العلمانية/الفصل بين الدين والدولة والمواطنة المتساوية؟ ما الذي تغيّر؟ أهو الخوف من أن تصبح الأحلام وقائع، فينكشف عجز النخب التي أدمنت انتظار “اللحظة المثالية”؟
إن خطاب “الإغاثة قبل السياسة” الذي يردده الأستاذ عرمان ليس سوى قناع لسياسة قديمة، سياسة تأجيل الأسئلة الكبرى إلى ما لا نهاية. لكن، كما قال فانون، إن الذين يرفضون ولادة الجديد خوفًا من الفوضى، يتركون الباب مفتوحًا أمام عودة الطغيان، واربا بالاستاذ عرمان الاستمرار في هذا الارتباك!

في خطاب نزار يوسف، الناطق الرسمي باسم التيار الثوري: إعادة تدوير الهواجس القديمة
بيان التيار الثوري الديمقراطي، كما ورد على لسان نزار يوسف المتحدث باسمها، لم يكن أكثر من إعادة اجترار لمقولات مرهقة: الخوف من الانقسام، القلق على الوحدة، الدعوة للابتعاد عن الحكومتين…. ولكنه لم يُجب عن السؤال الأهم:
أين تقف هذه الحركة من مبادئها الأصلية ان كانت لها، وماهو موقف مبادئها من حكومة بورتسودان وما موقفها من أدوات هزيمته وتغيرها؟ ايحلمون باعتصام قيادة في المستقبل القريب ويريدونا ان ننتظر ام ماذا؟
كيف لحركة تدّعي تمثيل السودان الجديد بينما تتجنّب الاعتراف بحكومة بُنيت على تلك المبادئ ذاتها؟
ليس المطلوب أن تعترف هذه القوى بالحكومة كأمر واقع، بل أن تتحلى بحد أدنى من الانسجام الأخلاقي مع مشروعٍ تنتمي إليه اسميًا. فمن العار أن تُنسب لحركةٍ تحررية ثم ترفض ترجمة مبادئها حين تتحول إلى بنية سياسية.

حكومة تأسيس: لحظة الاستحقاق لا التباهي:
حكومة السلام والوحدة التي أعلنها تحالف “تأسيس” ليست تتويجًا لانتصار عسكري، بل إعلانٌ عن بديل مدني ديمقراطي قائم على الميثاق والدستور الانتقالي والمبادئ فوق الدستورية، وهي وثائق منشورة، مقروءة، ومفتوحة للنقد والمساءلة. الفرق الجوهري بينها وبين “اللا مشروع” الذي يروّج له بيان نزار يوسف، هو أن الأول يقدّم رؤية كاملة لبناء الدولة، بينما الثاني يكتفي بتعليقٍ عابر على الواقع، دون أي مقترح بديل.
وفي هذا السياق، نُذكر بمقولة سلافوي جيجك: “في السياسة، لا يكفي أن تقول لا. عليك أن تقول كيف، ومتى، وبأي أدوات”وتحالف “تأسيس” فعل ذلك بالضبط.

دعوة صريحة لا تعني الخضوع
إن الدعوة إلى القوى المدنية للانخراط في عملية البناء ليست إذعانًا، ولا محاولة لفرض أمر واقع. بل هي فتحٌ لأفقٍ تاريخي حقيقي: إما أن نواصل الدوران في حلقة “رفض الحكومتين” كمسكن أخلاقي، أو نواجه المسؤولية بشجاعة ونبدأ من حيث يجب أن نبدأ- من حيث تتجسد المبادئ، لا من حيث تُعلّق في الهواء”

ختامًا: بين من يواصل الكتابة، ومن يمزّق الصفحة الأخيرة:
الان، وكأنما مهندس البيت يهرب حين يرى الجدران ترتفع. لكننا تعلمنا من غرامشي أن “الأزمة تحدث حين يموت القديم ويعجز الجديد عن الولادة.” اليوم الجديد وُلد بالفعل: اسمه حكومة تأسيس للسلام والوحدة!
السؤال الذي يبقى: هل ستبقون حراس أطلال السودان القديم؟ أم ستدركون أن اللحظة التاريخية قد حُسمت، وأن السودان الجديد لن ينتظر أحداً؟
فالتاريخ لا ينتظر الذين يهابون خطواتهم. واليوم، حين تجرّأ تحالف “تأسيس” على تشكيل حكومة تستند إلى مشروع تحرري واضح، سقطت كثير من الأقنعة. من المؤسف أن يكون من كتبوا أول فقرات الحلم، هم أول من يجزع حين يكتمل نصّه.
لكن هذا النص لم يعُد ملكًا لأحد. إنه اليوم ملكٌ لجيل جديد قرر أن يفتح أبواب الدولة على اتساعها: علمانية، لا تمييز فيها باسم الدين؛ ديمقراطية، لا وصاية فيها باسم الشرعية الثورية؛ ووحدة، لا تُفرض بالقوة بل تُكسب بالمساواة.

مع التحية لكمرد ياسر وكمرد نزار.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.