محمد يوسف أحمد المصطفى: عندما يُهاجم الضمير لأنه انحاز إلى الحقيقة

عمار نجم الدين

في لحظةٍ تعيد تدوير شفرات الظلم القديم، تتناوش الأقلام المركزية د. محمد يوسف أحمد المصطفى، ليس لأنه أخطأ، بل لأنه خرج من طوقهم، وتمرّد على هندسة الامتياز التي ظلّت تُملي على أبناء المركز ما يجب أن يُقال، وما لا يجوز فعله، وما هو مسموح به في السودان الذي يُديره الصفوة. لكن د. محمد لم يأتِ من ضجيج المزايدات، بل من عمق النضال، من وجدان السودان الحقيقي، من جذور الشمال المهمّش الذي لا ينتمي إلى مركز الخرطوم، بل إلى شرايين المأساة.

الصورة التي تجمعه بالشهيد د. جون قرنق والراحل د. منصور خالد ليست مجرد لقطة أرشيفية، بل هي تعبير مرئي عن وطنٍ مختلف، وطنٍ لم يُبْنَ على التراتبية ولا على نقاء العرق أو صفاء الدم، بل على التنوّع الذي تنفر منه نخبة الخرطوم. صورة تختصر ثلاث مدارس فكرية وسياسية تعاقدت – رغم اختلاف مشاربها – على أن هذا الوطن لا يمكن أن يُدار بعقلية المركز، ولا يمكن أن ينجو بمنطق “من يحكم لا من كيف نحكم”.

منذ اليوم الأول للحرب، قالها د. محمد بوضوح: “الإشكال ليس في من تصنعه المؤسسة العسكرية، بل في المؤسسة نفسها.” قالها من قلب الخرطوم، لا من شرفة الحياد الكاذب ولا من موقع الحصانة الزائفة. المؤسسة التي ظلّ يحفر في صخور عنصريتها أكثر من أربعين عامًا، ويكشف بنيتها الكولونيالية التي اختطفت الدولة منذ لحظة الاستقلال. لم يقل هذا تحت عباءة فكر مستورد، بل من موقع من خبر الدولة وعرف دواليبها وعانى من ظلمها، حتى وهو يحمل لقب “أستاذ جامعي” داخلها.

لكن حين بدأ في تسمية الأشياء بأسمائها، انقلبت عليه النخبة المركزية، فصار فجأة خائنًا، وصار وعيه مشبوهًا، وصار لسانه تابعًا. هكذا تفعل النخبة حين يخرج أحدهم عن صفوفها، إذ ترى في تمرّده إهانةً لامتيازاتها لا لمبادئها، تهديدًا لبنيتها لا لنقاشها.

في عرف النخبة المركزية، أن تنتمي للحركة الشعبية أو لتحالف “تأسيس” يعني أنك بعت ضميرك، لأن الضمير في عرفهم لا يُقاس بموقف أخلاقي أو انحياز للمهمّشين، بل بمدى محافظتك على رأس المال الرمزي للصفوة: اللغة، الشكل، المؤسسات، والجيش. والجيش؟ نعم، تلك المؤسسة التي طالما مثلت ذراع الدولة العميقة، لا تُحاسب، ولا تُسائل، ولا تُصلح، بل يُعاد إنتاجها في كل مرحلة عبر سردية “الإشكال في القيادة لا المؤسسة”، رغم أنها – وباعتراف تاريخها الدموي – ارتكبت المجازر العرقية منذ خمسينات القرن الماضي، وأسّست لعقيدة الإبادة والصهر الثقافي، وصنعت المليشيات في دارفور وجنوب السودان والنيل الأزرق، ثم أطلقت نارها على شعبها باسم الوطن.

منذ أن أسّس تجمع المهنيين، البذرة التي فجّرت ثورة ديسمبر، لم يكن محمد يوسف عابرًا في النضال، بل كان ممن واجهوا الدولة من داخلها، من كواليس الخدمة المدنية، من جامعات المركز، من قلب النقابات. وحين التحق بالحركة الشعبية، لم يُغير موقعه، بل كشف موقعه الحقيقي. خرج من “كنانة المركز” بعد أن عرفها، ونزع نفسه من جلدٍ لا يشبهه. إنّ من يعرف المرمّز جيدًا، يدرك أيضًا أن من يتمرد عليه من داخله، يُحسب عليه ألف مرة. ولذلك لم يغفروا له… ولن يغفروا.

كل من يقرأ اليوم حملات التشويه الممنهجة ضد محمد يوسف، يدرك أن الخيانة الحقيقية ليست في موقعه اليوم، بل في عيون من يرون السودان الجديد خطرًا على امتيازهم القديم. فهم لا يهاجمون موقفه بل يحمون مصالحهم. يحمون السودان الذي يشبههم، ويخشون السودان الذي يشبه الجميع. إنهم لا يريدون أن يسقط الجيش لأنه حامي امتيازهم، لا لأنه مؤسسة وطنية. لا يهمهم التهميش، بل يهمهم من يجرؤ على تسمية التهميش باسم المركز، ومن يرفض إعادة تدوير الخرطوم بصيغة جديدة.

ما لا يفهمه صغار المركز، هو أن الضمير حين يُنضج لا يعود يُشترى، وأن من قرر أن يقف في صف السودان الحديد لن يعود إلى جحيم سودان التراتب. محمد يوسف لم يخن أحدًا، بل تحرر. لم ينقلب على شيء، بل أدرك الحقيقة الكاملة: أن الدولة لا تُصلح من الداخل إذا كان الداخل فاسدًا. الآن، وهو أحد قيادات حكومة تأسيس، الدولة التي بُنيت على ميثاق السودان الحديد، لا يزال صوته واضحًا، وخطواته ثابتة، وضميره مستقيم.

ولأن الكبير لا يُقاس بحجمه في عيون المركز، بل بثقله في ميزان التاريخ، فإن محمد يوسف سيظل كبيرًا… مهما صغرت ألسنة الهجوم.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.