الالتزام بالمواثيق الدولية مدخل للتدخل:
منذ نشوء الدول الحديثة وتوقيعها على ميثاق عصبة الأمم – الذي تحوّل لاحقًا إلى ميثاق الأمم المتحدة – أصبحت هناك مجموعة من المواثيق والمعاهدات الدولية التي تقيّد سلوك الدول وتحكم تصرفاتها، خصوصًا في ما يتعلّق بالسلم والأمن العالميين.
أيّ خلل في الالتزام بهذه المواثيق، سواء من خلال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو الحروب الأهلية المدمرة، يفتح المجال واسعًا للتدخل الخارجي، سواء تحت غطاء أممي أو عبر مبادرات إقليمية ودولية.
هشاشة الدول وغياب العقد الاجتماعي:
غالبًا ما تجد القوى الدولية مبررات لتدخلها في الدول التي تعاني من اضطرابات سياسية وأمنية متواصلة، خاصة تلك التي تشهد صراعات منظمة بين الدولة ومتمردين، أو صراعات غير منظمة داخل مكوناتها الاجتماعية.
يتفاقم الأمر عندما تنحاز الدولة لطرف اجتماعي ضد أطراف أخرى، أو حين تمتلك الدولة موارد طبيعية مغرية. هذا التدخل قد يُشرعن تحت دعاوى “منع الانهيار”، أو “إعادة الاستقرار”، لكنه غالبًا ما يكون مدفوعًا بمصالح اقتصادية وجيوسياسية.
التدخل التاريخي والإرث الاستعماري:
في بعض الحالات، يرتبط التدخل الخارجي بإرث استعماري لا تزال الدول الكبرى ترى نفسها مسؤولة عن “صونه”. فتتدخل عندما ترى أن مصالحها الثقافية أو الاقتصادية مهددة، لا سيما في لحظات التحولات الجذرية والثورات السياسية التي تطعن في شرعية ذلك الإرث.
السودان نموذجًا: تاريخ من التدخلات والفُرَص الضائعة: اختلالات تأسيس الدولة السودانية
منذ استقلاله، ظل السودان عرضة للتدخلات الخارجية، بسبب فشله في بناء دولة تقوم على عقد اجتماعي متماسك، يعبّر عن تعدده الثقافي والقيمي والاجتماعي. فقد نشأت الدولة السودانية كتركه استعمارية مشوهة، وأصرّت النخب السياسية والعسكرية على إعادة إنتاج هذه التشوهات بدلًا من معالجتها.
نظام الإنقاذ: الشعارات الجهادية والممارسات العدوانية
شهد السودان تحوّلًا خطيرًا عام 1989م، بعد انقلاب الإسلاميين على النظام الديمقراطي القائم، وتأسيسهم لحكم أيديولوجي حمل شعارات مناهضة للعالم أجمع، سواء الغرب بقيادة أمريكا أو الشرق بقيادة روسيا.
رفع النظام شعارات عدائية مثل: “أمريكا روسيا قد دنا عذابها”، ودعا في عام 1994 إلى مؤتمر إسلامي عالمي في الخرطوم، استُخدم كمنصة لاستقطاب المتطرفين من كل أنحاء العالم، مما أدى إلى تصنيف النظام كراعٍ للإرهاب، خصوصًا بعد استضافته لأسامة بن لادن في مطلع التسعينيات.
العزلة الدولية وتدويل الأزمات:
أدّت هذه السياسات إلى فرض حصار اقتصادي ودبلوماسي على السودان عام 1997م. ورغم ذلك، واصل النظام مغامراته بتدخلات سافرة في شؤون دول الجوار:
دعم المعارضة المسلحة في تشاد وأفريقيا الوسطى ويوغندا، التدخل في ليبيا وتسريب السلاح إلى معارضي القذافي، محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا، التنازل الضمني عن أراضٍ سودانية مثل حلايب وشلاتين والفشقة:
من الحرب الأهلية إلى الانفصال والتشظي:
ساهم النظام أيضًا في إشعال الحرب الأهلية التي قادت إلى انفصال جنوب السودان، ولم يتوقف عند ذلك، بل استمر في التدخل في شؤون الدولة الجديدة.
وقد شكّل كل هذا سلوكًا عدائيًا جعل من السودان دولة منبوذة في محيطها الإقليمي والدولي، وغير مؤهلة لحشد أي تعاطف عند اشتعال الحرب الأخيرة في أبريل.
السيادة لا تُحمى بالشعارات:
اليوم، حين يرفض المسؤولون السودانيون التدخلات الخارجية، فإنّ رفضهم يبدو بلا قيمة، لأنهم كانوا أول من انتهك سيادة الدول الأخرى. كما أنهم فقدوا السيطرة على الدولة، وتركوا ثغرات كبيرة تتدخل من خلالها القوى الأجنبية.
الحل الوحيد هو الاستجابة لتيار التغيير الحقيقي، وتأسيس دولة: تحترم الجوار، تلتزم بالمواثيق الدولية، تعتمد العدالة والمساواة، تبني مؤسسات وطنية تعبّر عن التنوع وتضمن الاستقرار.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.