مني أركو مناوي من راهن على موائد الغرباء، خرج من المولد بلا حمص .. تلك هي حكاية من أراد أن يكتب اسمه في سفر المجد بأقلام غيره، فوجد نفسه عابرًا بلا ظل، يبكي على اللبن المسكوب
لم يكن تصريح مني أركو مناوي لقناة الحدث مجرد ارتجال في لحظة إعلامية، بل هو الإعلان المتأخر عن حقيقة هزيمته السياسية والأخلاقية، وهو ذاته الذي مهدت له تغريدته بالأمس على منصة “إكس” حين حذّر، بحسرة شديدة، من أن السودان يسير نحو التقسيم وأن هذا التقسيم لا يجب أن يكون “هكذا”… تلك الحسرة ليست على وحدة البلاد ولا على مصير الهامش، بل هي على فوات النصيب وانحسار الحظ، فلا بلح الشام أدرك، ولا عنب اليمن ذاق، ولا فتحت له تفاح جبل مرة، وخرج من المولد بلا حمص ولا حتى ( مناصيص نيالا).
لقد لخص مناوي، دون أن يقصد، مأساة النخب الهامشية التي ظنت أنها قادرة على اللعب في ملعب المركز، أن تأخذ من المائدة المركزية ما لم يمنحه التاريخ والجغرافيا والسياسة إلا لأهل الحظوة والامتياز. ومناوي ليس استثناء، بل هو نموذج تتكرر ملامحه في كل الهامش حين يُغوى ببريق السلطة المركزية، ظنًا أن المركز يعترف لهم بالمواطنة الكاملة متى بايعوا وبذلوا دماءهم دفاعًا عن “وحدة قهرية ” بنيت على إقصائهم.
في بداية الحرب، حين كان مناوي يحسب كل صاروخ يمر فوق الفاشر وعدًا بدولة في الغرب، سمع من أحد سفراء الدول العظمى وعدًا: “سيُقسم السودان إلى ثلاث دول – دولة في الغرب، ودولة في الشمال والشرق، ودولة في الجنوب.” وربما ألقى ذلك السفير طعم الدولة الموعودة في حلق مناوي، لكنه لم يخبره أن شروط بناء الدول ليست مجرد خرائط مرسومة، بل مسار طويل من الوعي والقيادة والرؤية التاريخية، وهي شروط لم يمتلكها مناوي يومًا. ظن الرجل أن “كل المدردم ليمون”، وأن من يقاتل لأجل المركز اليوم سيجلس على عرشه غدًا، غافلًا عن أن النخبة الشمالية ما كانت يومًا شريكًا صادقًا للهامش، بل طالما نظرت إليه كدرع أمامي يُستنزف، ثم يُرمى.
اليوم، وقد أغلقت بورسودان أبوابها في وجهه، وانقلبت عليه نخبة الشمال، وقذفته خارج دائرة الامتياز، ها هو يقف على بعيدا من الفاشر المنهارة، يشهد جنوده وقد أُلقوا في أتون حرب لم تكن حربهم في كل مدن الشمال و الوسط الذي تخلى عنه . بالأمس كانت ذات النخبة – التي استنزفت طاقات “مسار دارفور” بالضغط والابتزاز واليوم تتنكر لهم وتطلب منهم الهروب غربًا دون حتى شفقة الذكرى أو عتاب الفشل. هنا فقط اكتشف مناوي، بعد عمى طويل عن سنن السياسة والتاريخ، أن من يحسب أن “مشكل السودان دارفور” لم يفهم شيئًا من دروس الأمس، إذ كان المركز من قبل يصنع الموت والفرقة في الجنوب حتى إذا انفصل، عاود الدور ذاته في الهامش الجديد.
المفارقة، أن إعلان حكومة “تحالف تأسيس” من نيالا – العاصـمة السودانية الجديدة التي أبت إلا أن تفتح أبوابها لمشروع دولة السودان الجديد – لم يأتِ من خصومه التقليديين، بل من داخل الهامش نفسه، حيث تتشكل قيادة جديدة تعلن انتهاء عصر الوصاية المركزية على الهامش. وفيما يبكي مناوي على اللبن المسكوب، ويقف خارج دائرة الاعتراف، نجد أن قطار التأسيس قد فات الرجل، ولن تدركه لا مناصيص نيالا ولا حتى (سمك البيتش في البحر الأحمر، ) فقد خرج من كل “الموالد” بلا “حمص”، ووجد نفسه غريبًا في الشمال، طريدًا من الشرق، وعاجزًا عن لمّ شتات جبل مرة و الفاشر و نيالا .
لعل أبلغ ما في المشهد أن تصريح مناوي اليوم كان خبراً لمبتدأ ل التغريدة بالأمس في منصة X : ماذا لو بقيت حكومة تأسيس لعامين أو أكثر؟ الواقع أنه حينها لن يعود السودان كما كان، ولن تبقى دارفور ورقة في يد المساومين، بل سيجد مناوي نفسه عاريًا من أي غطاء سياسي أو اجتماعي، وقد تحوّل من حالم بعرش دولة الغرب إلى مواطن من الدرجة الثانية في “سودان الشمال” الذي لم ولن يعترف به إلا كلاجئ عابر الحدود.
هذه الحكاية ليست محلية سودانية فقط. ثمة تشابهات مع زعماء الهوامش في إفريقيا والشرق الأوسط، ممن باعوا أوهام الشراكة للمركز وانتهوا بلا وطن ولا قضية: كما حدث في جنوب السودان حين دفع المركز الجنوبيين للانفصال ثم تركهم يواجهون مصيرهم بلا تعويض ولا اعتراف دولي جاد، أو كما فعل زعماء الهوتو والتوتسي حين رقصوا في حفلات الدم المركزية ثم وجدوا أنفسهم على مذابح الإبادة بلا نصير ولا شريك.
مني أركو مناوي اليوم يعلن انهيار مشروعه دون أن يدري، يقف على حافة وطن يتشظى ويكتشف أن السفير الذي وعده بالدولة لم يمنحه خارطة الطريق، وأن الشمال الذي ابتزه بالأمس طرده اليوم بلا شفقة ولا ذرة امتنان. هذه دروس التاريخ، لمن أراد أن يتدبر: أن الهامش لا يبني دولة إلا بمنهجه وبأدواته ورجاله، لا بموائد المركز ولا بفتات مواليده.
هكذا كتب التاريخ على الهامش أن يُعيد بناء نفسه، لا أن ينتظر شهادات المركز أو فتات السفراء. وحين ينقشع غبار الحرب، ستعرف دارفور أن بكاء مناوي على اللبن المسكوب لم يكن سوى لطمية أخيرة على قبر مشروعٍ لم يولد أبدًا.
Prev Post
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.