في تطور جديد للمشهد العسكري في السودان، تواصل مليشيا درع السودان، بقيادة أبو عاقلة كيكل، تحركاتها نحو مناطق كردفان، تحت ذريعة “تحريرها” من سيطرة قوات الدعم السريع. غير أن هذه التحركات تواجه واقعًا ميدانيًا واجتماعيًا معقدًا، يُعيد إلى الأذهان مآلات حملات تاريخية فاشلة، أبرزها حملة هكس باشا في ١٨٨٣م ، التي انتهت بهزيمة ساحقة في معركة شيكان على تخوم مدينة الأبيض.
مليشيا درع السودان وهي مجموعات تتكون من قبائل بالجزيرة وأرض البطانة، والتي تقدم نفسها كقوة لا تُقهر، تخوض مغامرة عسكرية في إقليم شديد التعقيد، دون معرفة دقيقة بتضاريسه أو تركيبته القبلية، ودون فهم للموارد المحلية التي تتحكم في موازين الصراع. الأخطر من ذلك، هو غياب الحاضنة الشعبية، إذ يبدو وجود هذه المليشيا أشبه بجسم غريب لا يجد له سندًا في الأرض التي يحاول السيطرة عليها. وعلاوة على ذلك يتذكر الناس لا سيما أهل كردفان ودارفور المجازر الوحشية التي أرتكبتها مليشيا كيكل بحق المواطنين العزل في الجزيزة الكنابي وجبل أوليا وامدرمان. كانت مليشيا درع السودان تقتل الناس على أساس عرقي وجهوي بغيض.
على النقيض، تتمتع قوات الدعم السريع بامتداد اجتماعي واسع وعلاقات محلية راسخة داخل كردفان، تجعل من اختراق الإقليم عسكريًا مهمة شديدة الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة. وقد كشفت الأيام الماضية بوضوح هذا التباين على الأرض، حيث مُنيت قوات الجيش السوداني وحلفاؤه بجملة من الهزائم المتتالية.
ففي الخوي والنهود، تم تدمير معسكرات بالكامل وسقطت المواقع تباعًا، فيما شهدت معارك أم صميمة بالأمس واحدة من أسرع الهزائم التي لحقت بالجيش ومليشيا درع السودان، وسط انهيار لوجستي ومعنوي كبير. أما في أم سيالة، فقد كانت الضربة القاضية، حيث تم القضاء شبه الكامل على القوة المتقدمة لدرع السودان.
كل هذه الوقائع تعيد إلى الأذهان مصير الحملة البريطانية بقيادة هكس باشا، التي تقدّمت بثقة مفرطة نحو شيكان، فتم تدميرها والقضاء على جيشها بواسطة جيوش الثورة المهدية والمتطوعين من قبائل كردفان. واليوم، يبدو أن درع السودان تكرر ذات السيناريو، ولكن على خلفية داخلية، وبأدوات محلية تُعيد إنتاج فشل الماضي بطريقة أكثر مأساوية.
والمثير للانتباه أن الجيش قد اعتمد في المرحلة الأخيرة على تحالف ثلاثي من المتحركات، يضم: القوات النظامية، وبعض الحركات المسلحة المتحالفة، ومليشيا درع السودان (المعروفة شعبيًا بـ”الدراعة”). لكن هذا التحالف، رغم تنوعه، لم يصمد أمام الضربات المحكمة التي وجهتها قوات الدعم السريع.
فقد استطاع الدعم السريع تفكيك وتشتيت القوة الصلبة لهذا التحالف، بدءًا من متحرك الصياد، ومرورًا بكافة خطوط الإمداد، وصولًا إلى انهيار درع السودان نفسه. ومع تكرار هذه الانتكاسات، يتأكد أن ما يُروَّج له كـ”تحرير” لكردفان ودارفور ليس سوى مغامرة عسكرية بلا أفق.
إن كردفان ودارفور، بما تحملانه من عمق اجتماعي وبنية سياسية مقاومة، ستظلان عصيتين على هذا المشروع العسكري الهش، خصوصًا في ظل تصاعد الزخم السياسي والمدني لحكومة التأسيس، التي بدأت ترسي دعائم شرعية جديدة، تُعيد ترتيب العلاقة بين المركز والهامش، وتفتح الطريق أمام نظام سياسي مختلف يقوم على التنوع، لا على الاستتباع العسكري.
وبالأمس، اكتملت فصول هذا الانهيار، عندما تم القضاء على بقايا مغامرات الجيش ودرع السودان في محيط أم سيالة، لتنتهي معها أسطورة أبو عاقلة كيكل، المعروف بلقب “أبولمبة”، الذي سقط بين سخرية الميدان وصمت الحلفاء.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.