منذ سقوط نظام الإنقاذ في 2019، ظلت فلول “الكيزان” ــ الاسم الشعبي للحركة الاسلاموية السودانية ــ تبحث عن موطئ قدم في الساحة السياسية السودانية، سواء عبر واجهات جديدة أو من خلال اختراق التحالفات القائمة.أسست جماعة منها ما يسمى بكتيبة البراء بن مالك وقوات النخبة والتحمت عسكرياً سنداً للجيش .أما المجموعات المدنية متها ومع اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في 2023، دخلت البلاد في حالة من السيولة السياسية والعسكرية، أتاحت مساحات جديدة للمناورة أمام هذه القوى، التي باتت تلعب على التناقضات بين الأطراف الفاعلة: الدعم السريع من جهة، وتحالف تأسيس وقوى الثورة ” تحالف تقدم ثم صمود” من جهة أخرى.
فبعد طرد الإسلاميين من مفاصل الدولة، ظنوا أن الدعم السريع يمكن أن يشكّل حاضنة مؤقتة لهم، خصوصاً عبر الشخصيات التي حاولت إعادة تدوير الخطاب الإسلامي داخل بيئة الدعم السريع. واستفادت مجموعات الكيزان من هشاشة الأوضاع وتردي السيولة الأمنية ببعض مناطق السيطرة، فنشطوا بكثافة، وعملوا على تكوينات سرّية. وقد استغل الكيزان المرتبات التي تُرسل للموظفين بمختلف المؤسسات في مناطق السيطرة عبر تطبيق “بنكك”، حيث أصبحت هذه المرتبات وسيلة لإغراء ضعاف النفوس والمتأسلمين أيديولوجياً لمدّ الجيش والكيزان بمعلومات أمنية واستراتيجية عن سير العمليات والتجهيزات العسكرية والأمنية، وأي بيانات أخرى يمكن أن تضرّ بسلطة بورتسودان وجيشها.فالقصف الذي كان يستهدف الأعيان المدنية والمقار الحكومية كان يتم غالباً بناءً على معلومات تُرسلها هذه المجموعات.كما عمل الكيزان على الاستفادة من هذه السيولة في تنشيط كوادرهم ومنسوبيهم داخل المؤسسات، لخلق نوع من الفوضى، وعدم الرضا، وزعزعة الاستقرار، وإطلاق الشائعات والأخبار المفبركة والمضلّلة عن تردي الخدمات في مناطق السيطرة، وتصويرها كمناطق طاردة ومهملة، والدفع برواية أن المواطنين يهجرونها إلى مناطق الجيش لأنها أكثر أماناً واستقراراً وخدمة.
ولعل الضربة التي وُجّهت لفلول الكيزان عبر القبض المؤقت على جماعاتهم النشطة في مناطق السيطرة خلال الأشهر الماضية، قد ساهمت في استقرار الأوضاع نسبياً، وأحدثت حالة من التخويف والارتباك في صفوفهم، مما حدّ من نشاطهم وانتشارهم، ولو إلى حين. هذه الخطوة كشفت مدى تغلغلهم ومحاولاتهم لاختراق مؤسسات الخدمة المدنية والأمنية، وأكدت أن المواجهة معهم لا يجب أن تكون فقط سياسية، بل أمنية أيضاً.
تحالف تأسيس، الذي نشأ كامتداد لقوى الثورة في مناطق خارج سيطرة المركز، يسعى لتأسيس دولة مدنية، ديمقراطية، علمانية وفيدرالية. وهذا المشروع يُمثّل تهديداً وجودياً للكيزان، لأنه يستند على تفكيك الدولة القديمة، وإعادة توزيع السلطة والثروة بصورة لا مركزية، مما يُنهي فعلياً هيمنة المركز التي استثمر فيها الكيزان لعقود. ولهذا، يسعى الإسلاميون اليوم إلى ضرب تحالف تأسيس سياسياً، سواء بمحاولة اختراقه من الداخل، أو عبر التحريض ضده، أو حتى بعقد تفاهمات مع بعض خصومه التكتيكيين لإفشاله.
الواضح أن الكيزان لا يراهنون على طرف واحد، بل يسعون للعب على كافة الحبال. ففي لحظة ما، يدعمون خطاب الدعم السريع ضد المركز، وفي لحظة أخرى، ينادون بعودة الدولة المركزية القديمة لضرب مشروع الفيدرالية. وفي أحيان كثيرة، يحاولون تشويه تحالف تأسيس بأنه علماني أو انفصالي، مستغلين الخطاب الديني والعاطفة الشعبية.
يبقى أن الساحة السودانية اليوم لم تعد كما كانت بالأمس. فوعي الشعوب يتزايد، والمشاريع الحقيقية أصبحت تُفحَص على أرض الواقع لا بالشعارات. وبينما يواصل الكيزان سعيهم بين معسكرات الحرب والتحالفات المدنية، فإن المستقبل مرهون بمدى قدرة القوى الحية في السودان ــ وعلى رأسها تحالف تأسيس ــ في بناء مشروع وطني يتجاوز الماضي، ويقطع الطريق على من يريدون إعادة تدوير الخراب.
والمطلوب من الدعم السريع ومكونات تحالف تأسيس الانتباه لعودة الكيزان داخل هذه المؤسسات أو انضمامهم إلى صفوف هذا التحالف عبر أي صيغة أو مبادرة، سواء كانت أهلية أو نوعية أو عسكرية أو مهنية، لأن غفلة اليوم ستكون اختراق الغد، ولأن استعادة الدولة لا تكتمل إلا بإقصاء من خربها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.