من الطوارئ إلى الإشعاع: وفاة ليلى حمد النيل كيميائياً

عمار نجم الدين

وفاة ليلى حمد النيل، رئيسة قسم الاستجابة بإدارة الطوارئ والأوبئة في وزارة الصحة لنظام بورسودان، لم تكن حدثًا عابرًا ولا فقدًا عاديًا لكادر صحي. هي كانت في قلب معركة الصحة العامة، تتعامل يوميًا مع الأزمات والوفيات الجماعية والأعراض الغامضة التي اجتاحت الخرطوم وأم درمان والجزيرة في الشهور الأخيرة. موقعها الحساس جعلها شاهدة مباشرة على ما يجري، وأول من يلامس الحقيقة في لحظة يتكاثر فيها الغموض.
ليلى بدأت منذ أسبوع تعاني من أعراض حادة: ضيق تنفس، سعال جاف، إرهاق شديد. نُقلت أولاً من الخرطوم إلى بورتسودان، لكن حالتها تدهورت أكثر، وفارقت الحياة قبل أن تُنقل إلى القاهرة للعلاج. هذه الأعراض متطابقة مع ما أصاب آلاف المدنيين الذين ملأوا المستشفيات الميدانية في العاصمة، عقب حوادث تسرب غازات من مخازن ذخيرة تابعة للجيش في أم درمان. الصور والشهادات كشفت عن جثث ملقاة في الشوارع، فيما أصرت الحكومة على أن ما يحدث مجرد “تلوث صناعي”، في إنكارٍ واضح للحقائق على الأرض.
في ذات الفترة، تصاعدت الاتهامات الدولية ضد السودان باستخدام أسلحة كيميائية محرمة. الولايات المتحدة فرضت عقوبات في مايو 2025 بعد أن خلصت إلى أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية ضد المدنيين وقوات الدعم السريع، في خرق مباشر لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي صادق عليها السودان منذ 1999. منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أعلنت فتح تحقيق رسمي، فيما أكدت تقارير صحفية أن حوادث أم درمان كشفت عن تخزين واستخدام غازات سامة مثل الكلور والخردل.
اللافت أن السلطات السودانية لم تكتف بالإنكار، بل ذهبت إلى خطوة أكثر خطورة: طرد اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان من البلاد. هذا القرار جاء في لحظة حرجة، بالتزامن مع المطالبات الدولية بالتحقيق في الملف الكيميائي، ليكشف أن الحكومة تسعى بشكل مباشر لطمس الأدلة ومنع أي جهة محايدة من الوصول إلى الحقيقة. طرد اللجنة ليس مجرد خلاف إداري، بل مؤشر سياسي على خوف السلطة من تقارير قد تربط الأمراض الجماعية ووفاة خبراء مثل ليلى باستخدام أسلحة محرمة.
في خضم هذا كله، خرج رئيس الوزراء كامل إدريس بتصريح يحذر فيه من المخاطر الإشعاعية، داعيًا إلى الالتزام بإجراءات السلامة. هذا التصريح، في توقيت متزامن مع تصاعد الحديث عن الغازات ووفاة ليلى، يمثل قرينة إضافية على أن نظام بورسودان نفسها تدرك وجود تهديد غير تقليدي، وأن الحرب لم تعد محصورة في الأسلحة التقليدية.
وفاة ليلى، وهي المسؤولة عن الاستجابة للأوبئة، تمثل صلة مباشرة بين العمل الميداني والنتائج الكارثية. رحيلها بأعراض مشابهة لما أصاب آلاف المدنيين يعني أنها ضحية مزدوجة: ضحية تعرض مباشر للغازات، وضحية تستر سياسي حاول أن يدفن الحقيقة معها. إن الإنكار الرسمي لم يعد كافيًا، والعقوبات الدولية وفتح التحقيقات من قبل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والولايات المتحدة كلها شواهد على أن ما يحدث في السودان ليس تلوثًا صناعيًا ولا حادثًا عرضيًا، بل جريمة حرب تُدار بالأسلحة الكيميائية وربما الإشعاعية.
إن رحيل ليلى حمد النيل ليس مأساة شخصية فقط، بل شهادة دامغة على أن السودان يعيش حربًا محرمة دوليًا، وأن محاولات بورتسودان لإخفاء الحقيقة عبر طرد لجان التحقيق الدولية لن تغيّر شيئًا من الواقع. الحاجة الآن لتحقيق دولي مستقل أصبحت ملحّة، ليس فقط لإظهار ما تعرضت له ليلى، بل لحماية ملايين المدنيين من حرب قذرة تُدار في الظل وتستهدف كل ما تبقى من حياة في السودان.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.