تارس

سلامٌ عليك يا إبراهيم يوم تبكيك البواكي.. ويوم يغشاك الدعاء

كتب دكتور: خالد تارس

د.إبراهيم زريبة كان إنساناً (استثنائياً)، ووطني شريف، ومناضلاً صادقاً أفنى زهرة حياته في خدمة الناس والبلاد، حاملاً هموم العامة..

فاجعة الرحيل وغُصة الفقد الأبدي
لم يكن موت أخي ورفيقي إبراهيم زريبة حدثاً يمكن ابتلاعه بسهولة، بل كان رحلة طويلة من الحُزن والأسى، وزلزالاً يهزّ القلب والروح والوجدان، بيني وبين رحيله الفاجع كانت سويعات معدودة؛ لم أكن أعرف أنها آخر لقاءاتنا الرائعة. لقد صعقني الخبر بعد ساعتين فقط من زيارتنا له في شقته بحي جيكوني بوسط مدينة كمبالا رفقة الأخ زهير، لم أُصدق خبر وفاته حتى هرعنا مسرعين مع الأخ نجم الدين دريسة إلى مستشفى نوفاك على شارع بومبا. هناك، وجدناه يرتدي جُلابية سودانية بيضاء، يتمدد على العربة التي أقلته إلى المستشفى، كمن داهمه النوم بعد سهر الليالي. لقد صدمتنا اللحظة؛ حيث إنه لم يكن كالميت بل كالنائم، ننتظر يقظته التي لم تأتِ، بيد أن إدارة المستشفى أكدت الوفاة على لسان أربعة أطباء.!
برحيل إبراهيم، فقدنا مركز الصبر والاحتمال والحِكمة. وبرحيله، فقدت الساحة الوطنية رجلاً نادراً لا يتكرر، ولا نستطيع إحصاء عدد برقيات التعازي التي انهالت علينا، ولا عدد الذين نعوه من الأصدقاء والزملاء والاحباب. لقد تفرقت صِيوانات التعازي بين أوروبا، وافريقيا والسودان؛ فقد كان إبراهيم أُمّة، الكل له معه موقفٍ مختلف وعلاقة خاصة. لم يكن إبراهيم زريبة مجرد أخ عزيز، كان إنساناً (استثنائياً)، ووطني شريف، ومناضلاً صادقاً أفنى زهرة حياته في خدمة الناس والبلاد، حاملاً هموم العامة. وقد بذل وقته الخاص وجهده وراحته من أجل الآخرين، في عطاء مجاني لا ينتظر ثمناً ولا يبحث منصباً.

كانت حياته منارة (أخلاقية)؛ لا يساوم على الحق والمبدأ، ولا يعرف طريقاً إلى المال العام. كان مناضلاً مجانياً بحق، لا يناضل من أجل منصبٍ ولا جاه، بل من أجل قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية..

نقاء السيرة وبهاء المآثر
ولد وترعرع إبراهيم زريبة في منطقة الكومة، ونشأ وسط أسرة اشتهرت بالتعليم والنضال، وشب في محيط مجتمعات بدوية تحترف سعية الإبل، وهو نشاط رعوي معروف بأثره الكبير في الحياة الثقافية والاجتماعية بشمال دارفور او (دار الريح)، حيث ان الأبالة ارتبطوا تماماً بالفخر والجاه وعزة النفس. نشأ إبراهيم على هذه القيم الانسانية، حيث تجسدت فيه كأبهى ما تكون. كان إبراهيم أنقى من الثوب الأبيض، قلبه مفعماً بالحنان وحب الخير، لسانه لا يعرف الكذب ولا النّميمة، عفيفاً شريفاً لم يمد يده إلى الحرام قط. لقد تميز بين الاخرين بصفاء السريره ونقاء المعدن، وبحسه الإنساني الذي جعله محبوباً للجميع. كان يجالس الكبير والصغير، ويشارك الأفراح والأتراح، متواجداً كعادته في كل المحافل، ومساهماً سخياً بالفكر النيّر والحوارات العميقة، وعلمه الوفير. كان متاحاً للجميع، وحضوراً دائماً في كل لحظات الحاجة والشِدة.
لقد كانت حياته منارة (أخلاقية)؛ لا يساوم على الحق والمبدأ، ولا يعرف طريقاً إلى المال العام. كان مناضلاً مجانياً بحق، لا يناضل من أجل منصبٍ ولا جاه، بل من أجل قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. كان حاضراً في كل محفل ومسيرة سياسية تطالب بالتغيير، لم يتأخر يوماً عن واجبٍ وطني أو موقف أخلاقي نبيل. ومع هذا كله، فقد تعرض إبراهيم إلى مظالم لا تحصى ولا تُعد، وكأنما قّدره يدفع ثمن الصدق والنقاء في عالم لا يرحم.!

شهادة على الظلم العام:
إن حياة إبراهيم المنحدر من الكومة لم تكن سهلة، كانت سلسلة طويلة من المظالم والخذلان والتجارب القاسية والمريرة التي لم تنل من عزيمته وصبره شيئاً. هذا سجلٌ موجعٌ لأبرز فصول قسوة الحياة العامة، حيث يمكن اختصاره في اربعة مظالم معروفة:
مظلمة أولى: الإقصاء الأكاديمي وجرح الهامش
عُرف ابراهيم طعم الظلم منذ بواكير شبابه حين كان طالباً بجامعة الخرطوم، هناك بدأت أولى الصدمات حين عزلته ديناصورات الجامعة من قوائم هيئة التدريس بكلية الزراعة شمبات، رغم أنه كان الأول على دفعته وحصوله على معدلات أكاديمية خُرافية لم يشهدها تاريخ الكلية منذ تاسيسها. كان سبب الإقصاء الممنهج هو أنه أتى من الهامش، إضافة إلى كونه ناشطاً سياسياً رافضاً للظلم، ومجاهراً بمناهضته للنظام القائم آنذاك. كان ذلك الإقصاء أول جرح عميق في مسيرة الراحل، لكنه لم يثنه عن مواصلة المسير (الثوري).!
مظلمة ثانية: مِحنة الأسر ومخلفات التنكيل
ومضت الأيام لتقود إبراهيم إلى تجربة أشد قُسوةً وبطشاً، حين وقع في الأسر مع بعض رفاقه، وتم اقتيادهم إلى معتقلات حركة العدل والمساواة بجنوب السودان. أكثر من ثلاث سنوات قضاها الرجل في التعذيب النفسي، وعانى خلالها الجوع والبرد والمرض. لقد كان قريباً من الموت أكثر، لكنه صمد وصبر كما يفعل الكبار، ظل مؤمناً أن خلاص الوطن يستحق النبل وكل التضحيات. وبعد محاولات عديدة، اتصلت شخصياً بالدكتور جبريل إبراهيم رئيس الحركة مثنياً على فك سراح هؤلاء الأسرى الذين نعرفهم، فوعد وأوفى. خرج زريبة ورفاقه من الأسر لكنه كان مثقلاً بمرض الربو نتيجة الإهمال والتنكيل والتجويع، إلا أنه خرج مرفوع الهامه، وأكثر إصراراً على مواصلة الرسالة واستكمال المشروع الذي ضحى لأجله سنين عددًا.!
مظلمة ثالثة: خُذلان الرفاق في سُبل السلام
لم تتوقف المظالم عند هذا الحد. ففي تجربته مع مجموعة الجنرال بخيت دبجو، المجموعة التي بسببها أُسر إبراهيم زريبة اربعة اعوام، بعد أن انحاز بصدق لسلام الدوحة، وشارك بإسهام كبير في ملفات التفاوض هناك، لكنه فوجئ بالإقصاء والتهميش مجدداً، هذه المره من رفاق الكفاح المسلح. لا ذنب سوى أن بعض النفوس ضاقت بعفته واستقامته، فأسقطوا اسمه من قوائم الترشيحات، (عنصريةً) وحسداً وبُغضاً.!
تكرر معه ذات المشهد لاحقاً في تجمع تحرير السودان بقيادة الطاهر حجر، بعد أن قاد وفد التفاوض في سلام جوبا، حيث كان كبير المفاوضين الذين أنجزوا ملفات سياسية مهمة جعلت السلام واقعاً، ومع ذلك كله يجد نفسه مرة أخرى خارج الاستحقاق ومُبعداً عن القوائم الوزارية الذي هو اهلا لها، لأن منطق (الإقصاء) كان أقوى من منطق العدالة والإسهام في القضية.!
مظلمة رابعة: العراقيل في (قمم) والرحيل بكرامة
ومع كل جرحٍ جديد، كان يزداد إبراهيم قوةً وصلابة، لم يستسلم لليأس ولم يستكن للخذلان والقنوط. وحين اندلعت حرب الخامس عشر من أبريل، انحاز مباشرةً لقوى التحول الديمقراطي التي يؤمن ببرنامجها، وكان في مقدمة الصفوف لتأسيس تحالف القوى المدنية المتحدة (قمم)، متحمّلاً مسؤولية الأمانة العامة. فقد بذل الرجل في هذه الفترة جهوداً مضنية، وسخر كامل علاقاته لإيصال صوت التحالف إلى المجتمع الدولي والإقليمي كجسم مدني جامع، يسعى إلى التغيير الشامل ونهضة البلاد. لكن حتى في هذه التجربة، واجه عدداً مهولاً من العراقيل والمتاريس من أقرب الناس، حتى اضطر لتقديم استقالته بكرامة وشجاعة ألجمت ألسُن الحِقد والحُسد والغِل، ليواصل دعمه للمشروع بطريقته الحرّة بعيداً عن المؤسسات.

الوداع.. وانتصار الروح على الظلام
لقد أثقلت هذه المظالم جسده النبيل، وأحنت ظهره الصلب ومزقت رئته، لكنها لم تكسر روحه الثورية. لقد ظل شامخاً كالطود حتى آخر لحظة، محتفظاً بوجهه البشوش وقلبه الكبير وضميره النقي، وحُلمه الذي لم ينطفئ إلا بسودان جديد تسوده العدالة ويعمّه السلام والوئام.
أخي الحبيب، رحيلك الهادئ أوجعنا للغاية، فقد تركت في القلب فراغاً عظيماً وحُزناً، وفي الروح (غُصّة). لكن عزاءنا أنك رحلت نظيف القلب واليد واللسان، كالنبي صادقاً مع النفس ووفياً للمبادئ، مناضلاً من أجل الحق والناس والحرية، حيث لم تنل المظالم من نقائك الشريف وطهرك شيئاً. لقد خسرك الوطن في رحلة لم تنتهِ بعد، وخسرك الأصدقاء والأحباب والاهل، لكنك ستظل باقياً في الذاكرة راسخاً في الوجدان، رمزاً للنزاهة والشجاعة والبذل والعطاء.!
نم قرير العين يا إبراهيم، فقد أديت ما عليك من واجب وقضية (عادلة)، وتركت لنا إرثاً وفيراً من الصدق والنبل والعرفان لن يفنى، ومسيرة طويلة من النضال ستظل علامة مضيئة في تاريخ هذا الوطن الجريح. سلامٌ عليك في رحيلك يا إبراهيم، وسلام عليك يوم يذكرك الناس رمزاً للحق والتضحية، وصوتاً جهوراً للعدالة، وضميراً إنسانياً لا ينطفئ.

لا حول ولا قوة إلا بالله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.