هنادي بنت الفاشر… لم تسقط صريعةً في الحرب، بل قضت صريعةً للمرض !

🖊🩸علي أحمد

نحو مائتي ألف من المدنيين، بحسب تقارير دولية عديدة، قُتلوا بعد عامين من الحرب التي أطلقتها الحركة الإسلامية بالتواطؤ مع قيادة الجيش على الشعب السوداني. لا أحد يذكر منهم أحدًا، إلا المقاتلة في صفوف حركة جيش تحرير السودان (جناح مني أركو مناوي)؛ هنادي النور داؤود (هنادي بنت الفاشر)، التي لقيت مصرعها أول أمس في معركة دارت بين وحدات من قوات الدعم السريع وقوات حركات المرتزقة المعروفة بـ(المشتركة)، والتي كانت الراحلة تقاتل بين صفوفها.

الغريب في الأمر أن الصفحات قد امتلأت بنعيها وصورها، وانتشرت سرادق العزاء الفيسبوكية من أجلها، ما جعلني أشعر بجهلي وتقصيري، وأنا الذي أزعم أنني أعرف وأتابع وأسمع صوت النملة في الشأن السوداني، ناهيك عن فتاة ناشطة وناضجة. وزاد طيني بلّة عندما نعتها صفحة تُسمّى بـ”لجان مقاومة الفاشر” ووصفتها بأيقونة الثورة، فجنّ جنوني وزاد إحساسي بالتقصير كما الجهل. ونازعتني نفسي اللوّامة، فنعيتها بداخلي وبكيتها وترحّمت على شبابها الغض، ولكن سرعان ما تبدد كل ذلك عندما عرفت أنها عضوة مقاتلة في حركات الجاهل النشط والمرتزق الأكبر “مني أركو مناوي”، فهذه الحركة كقائدها: منتفخة فسادًا و(فساءً) وعفونة.

وزير إعلام سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، المهرّج الحنجوري خالد الإعيسر، لن يُفوّت هذه السانحة بالتأكيد، وإلا لن يكون خُزعبليًا واعتباطيًا كما عوّدنا، فغرّد ناعيًا من سمّاها “الطبيبة المناضلة”! فأي نفاق هذا؟ وأية أكاذيب؟!

الصبية اليافعة التي – وفقًا للمنشورات والروايات الذائعة عنها – تبلغ من العمر (21) عامًا، اختارت السلاح، ولم تُنشر لها صورة إلا وهي تحمل سلاحها؛ بندقيتها بيمينها ومديّتها (سكينها) بيسارها. وكانت عاشقة للظهور الإعلامي في السوشيال ميديا، تنشر صورها وهي مدججة بالرشاش ومذخّرة بالطلقات، شاهرة سكينها، تريد النزال وتتوق إلى القتل أو (الاستشهاد).

لم يرها أحد وهي تحمل مشرطًا، أو تداوي جريحًا، أو تطبّب عجوزًا أو طفلًا، أو تضع على أذنيها سماعات طبية، كما لم يرها أحد وهي تتزيّا بأزياء من يعملون في مهنة الطب، أو وهي تُسعف الجرحى وتُنقذ المصابين. ولا أعرف كيف ومتى أصبحت طبيبة، خاصةً وأن جميع الناعين والناعيات على سرادق العزاء الأسفيرية قد اتفقوا على أن عمرها (21) عامًا، ولا أعرف متى درست وأين، وفي أي جامعة تخرجت ومتى؟ وهل التحقت بالمدرسة في عمر الثانية حتى تتخرج وتصبح طبيبة تمارس المهنة وهي ابنة (21) عامًا؟ هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الجامعات تعطلت عامًا وأكثر إبان ثورة ديسمبر، ومثله بعد انقلابهم المشؤوم، ثم عامين متتالين بعد حرب 15 أبريل 2023 اللعينة، وفقد جميع طلاب الجامعات نحو ثلاث سنوات أو أكثر من أعمارهم الدراسية، عدا هنادي التي دخلت كلية الطب في وسائل التواصل الاجتماعي وتخرجت هناك، وتم تعيينها طبيبة في مستشفى فيسبوك التعليمي!

لا توجد معلومة واحدة، ولا مؤشر واحد، يدل على أن المقاتلة في صفوف (مناوي) طبيبة، إلا متناثرات فيسبوك ونعي قناة (الحدث الأكبر)، وأيضًا نعي وزير (رجم الدُّمى) في حكومة البرهان. وننتظر من هذا المُدِّلس الكذاب الأشر أن يأتينا بسيرتها الذاتية؛ في أي الجامعات أو الكليات تخرجت، ومتى؟

لكن، فلنفترض جدلًا أنها طبيبة، إلا أن الثابت أنها ساعة قتلها في معركة الفاشر كانت في ساحة القتال، ترتدي زيًا عسكريًا وتحمل بندقية تطلق منها ذخائرها، ولم تكن في مشفى ترتدي (سكراب الأطباء) وتحمل مشرطًا تعالج به مريضًا. ثم إن الطبيب (تشي جيفارا)، أيقونة النضال والثورة المسلحة في هذا العالم الكبير كله، عندما نذر نفسه للقتال، لم يعد يصف نفسه بالطبيب، بل بالمقاتل والثائر. ولم يعد الناس يصفونه بمهنة الطب، وإن كان قد درسها، لكنه تخلى عنها طوعًا بحمله البندقية وتبنيه حسم الخلافات عبر فوهتها. ولم يعرف نفسه بالطبيب يومًا، ولم ينعه أحد حتى اليوم بوصفه طبيبًا. هذا إن كانت قتيلة الفاشر طبيبة أصلًا. وبالطبع، أنا هنا أقصد المثل لا المماثلة عندما وضعت اسم أيقونة النضال المسلح في العالم الثائر “جيفارا” بجانب قتيلة مناوي في الفاشر، وليغفر لي الرب فعلي هذا، وليسامحني ثوار العالم و(شعوبه المضطهدة)!

إن ما حدث من ترويج وتدليس ونفاق وكذب وتضليل فيما يتعلق بالمقاتلة في صفوف قوات مناوي، لا نظير له. فقد تم استغلال موتها إعلاميًا بلا رحمة، ولا إنسانية، ولا تقدير.
فليتقبّلها الله، لكنها لم تكن مواطنة مسالمة، بل كانت مقاتلة تهدد وتتوعد خصومها؛ تشهر الكلاشنكوف وتلوّح بالسكاكين في وجوه من تحاربهم وتعد العدّة لقتالهم وقتلهم؛ وكأنه يُفترض بهم أن يدعوها تفعل بهم ما تريد ولا يقتلوها في المعركة! وهي أيضًا على الأرجح – بل من المؤكد – لم تكن طبيبة، وفقًا للحيثيات التي أشرنا إليها آنفًا، ومن لديه غير ذلك فليأتِ به، وحينها سنطلق عليها “الأيقونة النابغة المناوية”، تأسّيًا بالشاعر العربي الفذ (النابغة الذبياني)، خصوصًا وأنهما – مناوي والشاعر القديم – كلاهما ينتميان للعصر الجاهلي.

لم تكن المسكينة هنادي طبيبة، ولم تكن ثائرة، بل كانت ضحية للتحشيد والتحريض، وضحية أيضاً- وأكثر- لحب الظهور ومحاولة جذب انتباه الناس على السوشيال ميديا بشتى الوسائل، لدرجة تعريض النفس للخطر، وهو مرض نفسي خطير عُرف حديثًا بـDigital Narcissism أو النرجسية الرقمية، وهذا ما أودى بحياتها – رحمها الله.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.