نقلت حادثة تحرير الفاشر، وهزيمة الجيش الإخواني والقوات المشتركة التي تحالفت معه، في الحرب الدائرة في السودان، منذ 15 أبريل 2023 كامل الوضع إلى مربَّعٍ جديد. وقد تزامن تحرير مدينتي بارا والفاشر، تباعًا، مع ما جرى من إفشال الوفد العسكري الإخواني لمحادثات واشنطن، التي دعت إليها الآلية الرباعية. على أثر هذه التطورات، تداعت عديد الوسائط الإعلامية، لإجراء اللقاءات مع السيد مُسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا. وكان على رأس هذه القنوات قناة الجزيرة، المنحازة منذ نشأتها للحركة الدولية للإخوان المسلمين، والتي ظلَّت داعمةً لجهود الإخوان المسلمين في السودان، للعودة إلى السلطة من جديد، منذ إطاحة الثورة الشعبية بحكمهم في ديسمبر 2018. وسأعود لاحقًا لدلالات تصريحات بولس.
الرباعية ليست على قلب رَجُلٍ واحد
أودُّ أن أشير ابتداءً إلى أنني لا أرى أن هناك توجُّهًا واحدًا داخل بنية الرباعية، وأن الرباعية، من الناحية العملية، ليست سوى الولايات المتحدة الأمريكية، وحدها. وما تبقى من أضلاعها الثلاث الأخرى، التي تمثِّلُها الدول العربية، فهي ليست، في حقيقة الأمر، سوى “تُمامة جِرْتِق”، كما يقول المثل السوداني. فمصر منحازةٌ عسكريًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، حتى نخاع العظم، لجيش الإخوان المسلمين في السودان. وهي في هذا تلعب على الحبلين: حبل التماهي الكاذب مع خطة الرباعية وفقًا للرؤية الأمريكية، وحبل الانخراط الذي لا يني في مساعدة جيش البرهان الإخواني للبقاء في السلطة مدعومًا بالحاضنة الضرار، المؤلفة من فلول النظام القديم، ومن أصحاب المصالح مع النظام القديم، ومن عديد المثقفين والإعلاميين والناشطين المقيمين في مصر، ممن تمكَّنت مصر من وضعهم في جيبها. هذه الحاضنة متعددة الأطراف، متشعبة المشارب والأهداف، حاضنةٌ زائفةٌ صنعتها مصر بيدها. وقد كانت حاضرةً في حفل تدشينها في قاعة الصداقة في الخرطوم، كما بقيت حاضرةً في توسيعها وسط الفاعلين السودانيين المقيمين في القاهرة. بل، إن مصر هي التي دفعت تلك الحاضنة، عند مبتدئها، لكي تقيم اعتصامها المفتعل أمام القصر الجمهوري في 16 أكتوبر 2021، لتطالب، بالصوت العالي، بالإطاحة بحكومة حمدوك. وهو ما قام به الفريق البرهان وزمرته، بالفعل، في 25 أكتوبر 2021. هذه أمورٌ لا نمل تكرارها، عسى ولعل أن يتذكَّرها أصحاب الذاكرات السمكية ويضعونها في الاعتبار.
أما المملكة العربية السعودية، فتقف في داخل الرباعية وخارجها موقفًا رماديًّا. ولا يظهر لها صوتٌ مسموعٌ فيما يجري حاليَّا، سوى المناداة الخافتة بالعودة إلى منبر جدة، الذي طواه النسيان، بفعل التملُّص المتكرِّر لإخوان السودان وجيشهم، وإصرارهم على استمرار الحرب، حتى استعادة سيطرتهم السابقة المطلقة على كامل البلاد. غير أن اللافت أكثر، أن قناتي “العربية” و”العربية الحدث”، الناطقتان باسم المملكة العربية السعودية، قد رَكِبَتَا، خاصةً، عقب تحرير الفاشر، على نفس السرج الذي ظلَّت تركب عليه قناة “الجزيرة” و”الجزيرة مباشر”، وهما تعالجان ما يجري حاليًا في السودان. كثَّفت كل هذه القنوات نشر فيديوهات الانتهاكات، وغالبها مشكوكٌ في صحته، وأدارت حولها الحوارات، مظهرتين من التحيُّز والتحامل ما لا تُظهره أيُّ قناةٍ مهنيةٍ تحترم نفسها وجمهورها. وللأسف الشديد، فإن بعضًا من مؤسسات الميديا الغربية تنقل ما تبثه هذه القنوات العربية، المُسَيَّسَة، المُضَلِّلة. أما موقف دولة الإمارات العربية المتحدة داخل الرباعية فقد كان ولا يزال مطابقًا للموقف الأمريكي، الداعي إلى وقف الحرب، على أساس عودة المدنيين إلى الحكم، ومواصلة السير في وجهة التحوُّل الديمقراطي.
الحملةُ مُجَهَّزةٌ سلفا
في تقديري أن هذه الحملة الضخمة قد كان مُعدَّا لها سلفًا، تحسُّبًا لانهيار دفاعات الفرقة السادسة مشاة في الفاشر وهزيمة الجيش الإخواني والقوات المشتركة التي كانت متوقَّعةً، بل، ومنتظرة. لقد كان مخططًا لهذه الحملة من جانب استخبارات الجيش السوداني، ومن جانب النظام المصري، بالتعاون مع القنوات العربية، الأكثر انتشارًا وتأثيرا. وقد تزامن مع كل ذلك، إطلاقٌ كاملٌ لقوى الجيش الضخم من الذباب الإلكتروني الإخواني، المنتشر في قارات العالم. والغرض من وراء هذه الحملة الضخمة المنسقة هو التشويش على الولايات المتحدة الأمريكية وإحراجها، لتبتعد عن موقفها الذي بقي ينظر إلى تحالف تأسيس وحكومته وقوات الدعم السريع، كطرفٍ له نفس الوزن السياسي والعسكري الذي لدى حكومة بورتسودان الإخوانية. بعبارة أخرى، الغرض الأساس هو الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية لكي تنحاز لجيش الإخوان المسلمين، وللرؤية المصرية، وربما السعودية، التي تنظر إلى حكومة بورتسودان بوصفها الحكومة الشرعية، وتنظر إلى تحالف تأسيس بوصفه كيانًا متمرِّدًا من واجب الدولة القضاء عليه. بل لقد شطح هؤلاء إلى الحد الذي جعلهم يطمعون في أن يُصنِّف لهم المجتمع الدولي قوات الدعم السريع كـ “جماعة إرهابية”!
تخيَّلوا!! نظام الإخوان المسلمين، الذي يرعى “كتائب البراء بن مالك”، و”كتائب البنيان المرصوص”، وغيرها من المجموعات الإرهابية، كمجموعة “العمل الخاص”، يتطلع، و”بقوة عين” مدهشة، إلى أن يعلن له العالم قوات الدعم السريع “جماعةً إرهابية”!! يتطلعون إلى ذلك وهم الذين استضافوا أسامة بن لادن، و”الثعلب” كارلوس، وبوكو حرام، والشباب الصومالي، وعناصر حماس الإرهابية، والحرس الثوري الإيراني!
باختصارٍ شديدٍ، هذه الحملة الإعلامية الضخمة المنسقة، لم تنشأ بصورةٍ عفويةٍ، وإنما هي عملٌ مخططٌ له، وبدقةٍ شديدةٍ. وقد جرى تصميم هذه الحملة بناءً على نجاح الحملة السابقة، التي جرت أثناء أحداث الجزيرة الدامية، وغيرها من الأحداث التي جرى فيها اختراق قوات الدعم السريع بعناصر استخباراتية من الجيش الإخواني. ودونكم نموذج أبو عاقلة كيكل الذي أشرف بنفسه، بوصفه قائد قوات الدعم السريع في الإقليم الأوسط، على كل الانتهاكات التي جرت في الجزيرة. ثم ما لبث، بعد أن أنجز مهمته المكلَّف بها، أن هرب عائدًا إلى حاضنته الأم، المتمثلة في الجيش الإخواني وحكومته، حيث جرى استقباله هناك كبطلٍ قومي. ودونكم أيضًا، والي الخرطوم، بزعمه، في فترة سيطرة قوات الدعم السريع على الخرطوم، المدعو إبراهيم بقال، الذي التحق مؤخرًا بكارتيل الإخوان المسلمين السودانيين، في تركيا.
ما من شكٍّ أبدًا أن عملية تحرير الفاشر قد شابتها بعض الانتهاكات، التي قام بها متفلتون من قوات الدعم السريع. وهي انتهاكاتٌ اعترف بها قائد القوات، رئيس المجلس الرئاسي لتحالف تأسيس، الفريق محمد حمدان دقلو، في آخر خطابٍ له، وكوَّن لجنةً للتحقيق فيها. بل وجرى بالفعل اعتقال الفاعل الملقَّب بـ “أبولولو”، الذي أدان نفسه بنفسه، بتصوير تلك الانتهاكات التي قام بها. كما جرى اعتقال آخرين معه، أيضا. لكن هل نجحت هذه الحملة في تحقيق هدفها؟ لا، لم تنجح، ولم ترجح كفة الميزان في صالح الجيش الإخواني وكفيلته مصر، كما كانوا يتوقعون. لقد فشلوا، على الرغم من كل ما قامت به الحملة الإعلامية الضخمة المنسقة؛ من نشرٍ للفيديوهات لإثارة العواطف وإشعال روح الغضب الشعبي السوداني، وربما الإقليمي والعالمي. بل، إن تصريحات السيد، مسعد بولس، التي قال فيها إن عودة المؤتمر الوطني والنظام القديم إلى السلطة في الترتيبات القادمة يمثِّل خطًا أحمرًا للولايات المتحدة الأمريكية قد سدَّت عليهم الأفق تماما. أكثر من ذلك، شكر المستشار، مسعد بولس قوات الدعم السريع على تعاونها في إيصال المساعدات الإنسانية إلى الفاشر. وهذا دليلٌ آخرٌ على فشل الخطة المصرية السعودية الإخوانية لتجيير جهود الرباعية لصالح جيش الإخوان المسلمين.
طرد الموظفين الدوليِّين دليلٌ على اليأس
من علامات حالة اليأس والإحباط التي اعترت الإخوان المسلمين وجيشهم، عقب خسرانهم الفاشر، وعقب إخفاق الحملة الإعلامية الضخمة المنسقة لجر الشريك الأمريكي إلى جانبهم، إسراعهم إلى طرد اثنين من كبار موظفي برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة من مدينة بورتسودان. بل، وإمهالهم 72 ساعة فقط، للمغادرة. وهذه حيلةٌ مفضوحةٌ طالما استخدمها المخلوع عمر البشير من قبل. ويكفي هذا الفعل الطائش، لفضح عقلية القيادة الإخوانية وجيشها في بورتسودان، وعدم اكتراثها بمعاناة الشعب السوداني. بل أثبتت هذه الخطوة الطائشة، من هي الجهة التي تشعر بمعاناة السودانيين، ومن هي الجهة التي لم تكترث قط في الماضي، ولا في الحاضر، ولن تكترث في المستقبل بمعاناة السودانيين وخراب ديارهم. فقد مرد الإخوان المسلمون وجيشهم عبر 35 عامًا على عدم الاكتراث بمصالح البلاد والعباد. بل، وعلى استخدام كل شيءٍ، بما في ذلك معاناة الناس وموتهم مرضًا وجوعًا، وسيلةً للضغط على المجتمع الدولي من أجل تحقيق ما يريدون. بل، والأسوأ من ذلك، أنهم حين يطردون الموظفين الدوليين، والقوات الدولية، والمنظمات غير الحكومية، يكون جانبًا من هدفهم متمثلاً إما في إخفاء الجرائم، أو في التغطية على الفساد في إدارة العون الإنساني، وفي تحقيق فرصٍ أكبر لنهب ما يأتي من عون إغاثيٍّ دوليٍّ وإقليميٍّ للمتضررين من السودانيين.
القابلية للاستغفال
لقد انساق كثيرٌ من السودانيين، بغفلةٍ شديدةٍ، وراء هذه الحملة الإعلامية المغرضة، المجهزة أصلاً، لإثارة العواطف الإنسانية، باستخدام نهجٍ إعلاميٍّ، انتقائيٍّ، فج. كان الهدف الأول والأخير منه إحراج الولايات المتحدة الأمريكية وجرِّها إلى اعتناق الرؤية المصرية، السعودية، البرهانية الإخوانية، لمستقبل الحكم في السودان. فهل سمع هؤلاء الذين انجروا وراء مصر والإخوان المسلمين في هذه الحملة، أن الفريق البرهان قد شكَّل في يومٍ من الأيام فريقًا للتحقيق في انتهاكات قواته ومليشياته وكتائبه الداعشية، التي يشيب من هولها الولدان؟ وهل حدث أن اعترف يومًا بأن هناك انتهاكاتٌ أصلاً، كما يفعل الدعم السريع؟ ألم يروا كيف تبقر كتائب البرهان الإخوانية البطون وتنتزع الأحشاء من بطون ضاحياها، وتلوك كبادهم، بل وتنزع الأجنة من بطون الحوامل، وتعبث بجماجم الهياكل العظيمة من قتلى الحرب الذين تحلَّلت جثثهم في الشوارع، وتذبح الناس من الوريد إلى الوريد؟
هل لم يروا ما قامت به تلك الكتائب عقب خروج قوات الدعم السريع من سنجة وودمدني والخرطوم من إعداماتٍ ميدانيةٍ مات فيها الآلاف؟ وهل لم يروا أو يسمعوا بقوات كيكل وهي تقتل سكان الكنابي بالآلاف بناءً على سحنهم؟ نحن لا نذكِّر هنا بكل تلك الفطائع لكي نبرر الانتهاكات التي قام بها أفرادٌ من قوات الدعم السريع، وإنما لنفضح هذه الانتقائية الفجة في سكب المشاعر الإنسانية. وكذلك، لنفضح ازدواجية المعايير الإنسانية ودموع التماسيح ذات الطابع السياسي، والهدف السياسي، والغرض السياسي. فما هو سبب هبة هؤلاء المنسوبين إلى الثورة بهذه الصورة التي وضعوا فيها أنفسهم “كومبارس”، ضمن هذه الحملة المصرية السعودية والإخوانية الضخمة، التي جُنِّدت لها أقوى قنوات البث التلفزيونية العربية، وأكبر جيشٍ من الذباب الإلكتروني؟ نحن نستغرب ذلك حقًّا لأننا لم نرهم يهبون بهذه الصورة، بل ولا بربعها من قبل، حين جرى كل الذي ذكرناه من انتهاكاتٍ ظل يقوم بها جيش البرهان الإخواني ومليشياته منذ 2018؟ كما أن فظائع دارفور منذ 2003، الذين اعترف كبيرهم بقتل 10 آلاف من جملة ضحاياها البالغة أعدادهم 300 ألفًا، فإن مرتكبيها المطلوبين لمحكمة الجنائية الدولية، يعيشون الآن في دعةٍ، تحت رعاية وحماية الفريق البرهان وجيشه الإخواني.
أيضًا، هل ياترى نسي هؤلاء إسناد التحقيق في مذبحة اعتصام القيادة العامة للمحامي نبيل أديب، الذي ما جيء به إلا لطمس القضية، فأمضى عامين دون أن يخرج بأي نتيجة؟ نفس هؤلاء القوم، لم يتحركوا آنذاك، بالقدر المطلوب، لوقف ذلك التباطؤ والتسويف المتعمد، الذي كان نبيل أديب ينتظر به حدوث الانقلاب. وهو انقلابٌ أخبره مُدبِّروه بأنه قادم. أيضًا هل نسي هؤلاء الإعدامات الميدانية التي قامت بها كتائب الإخوان المسلمين تحت إشراف الفريق البرهان؛ من قنص للشبان والشابات من أسطح البنايات، على مدى شهورٍ في شوارع الخرطوم، بالتصويب على الرأس والصدر، ثم إسناد تلك الفعائل الخسيسة إلى طرفٍ مجهول؟ وهل يا ترى قبل الفريق البرهان في أي يومٍ من الأيام، أي مقترحٍ لدخول لجنةٍ دوليةٍ محايدةٍ للتحقيق النزيه في الجرائم التي لا تُحصى ولا تُعد، التي ظلت تحدث منذ اندلاع الثورة؟ لماذا يتجاهل هؤلاء الذين تطوعوا للانخراط في هذه الحملة الإخوانية المصرية السعودية، أن قوات الدعم السريع قد ظلَّت تقبل، على الدوام، بقدوم لجنةٍ دوليةٍ، بل وتنادي بذلك؟ لقد فات على هؤلاء المنجرين وراء أضاليل الإخوان المسلمين، وهم في غمرة انفعالاتهم العاطفية الإنسانية الانتقائية، أن الهدف وراء هذه الحملة الضخمة التي انطلقت بتنسيقٍ متزامنٍ من عديد الزوايا، هو استبقاء الإخوان المسلمين في السلطة والأهم من ذلك، استدامة الهيمنة المصرية على السودان. لكن، لماذا نندهش نحن من هذه القابلية للاستغفال؟ فقد سبق أن قال الشاعر، أحمد شوقي في مسرحيته: “مصرع كليوباترة”:
أَثَّرَ البُهْتانُ فيهِ وانْطَلَى الزُّورُ عَلَيْهِ
يالهُ مِنَ بَبَغَاءٍعَقلُهُ فِىْ أُذُنَيْهِ) يتواصل).
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.