القيم الإنسانية والأخلاق والمبادئ لا تتجزأ .. لماذا “الفاشر” وليس “الكومة” أو “طرة” ؟

عبدالرحمن العاجب

المقال السابق الذي جاء بعنوان “سقوط مدينة الفاشر ونهاية سياسة الأرض المحروقة” كان بمثابة استعراض لمرحلة تاريخية حاسمة شهدت فيها البلاد ومدينة “الفاشر” على وجه الخصوص عمليات تدمير واسعة، جاءت نتيجة لصراع طويل دفع بالعديد من المجتمعات المحلية إلى معاناة لا توصف. تناول المقال تأثير سياسة الأرض المحروقة على المدنيين وكيف أن هذه السياسة كانت تعبيراً عن التدمير المنهجي للموارد البشرية والطبيعية بهدف فرض السيطرة العسكرية، ووجد المقال عدم قبول من بعض الأصدقاء والقراء، وهو ما دفعني لكتابة مقال يعزز الفكرة، ويسلط المقال الجديد الذي يأتي بعنوان “القيم الإنسانية والأخلاق والمبادئ لا تتجزأ .. لماذا الفاشر وليس الكومة أو طرة ؟” يسلط المقال الضوء على نوع آخر من الانتهاكات التي قد لا تكون أكثر وضوحًا أو تدميراً في الشكل، لكنها تعكس خرقاً للقيم الإنسانية الأساسية. فالسؤال المطروح هنا “لماذا الفاشر وليس الكومة أو طرة ؟” يعكس تساؤلاً مشروعًا عن أسباب التركيز على مناطق معينة دون أخرى، وكيف أن هذه الممارسات تؤثر على الناس والحقوق الإنسانية الأساسية بغض النظر عن المكان أو الزمان. يطرح المقال تساؤلات حول التعاطي مع الانتهاكات والجرائم الإنسانية، ويكشف عن فشل في تطبيق المبادئ الأخلاقية والقيم التي يفترض أن تكون أساساً لأي تعامل مع المدنيين.

في الفاشر، المدينة التي كانت تنام على حكايات التاريخ وتستيقظ على أمل الغد، سقطت المدينة الوادعة على يد قوات الدعم السريع وهي مثقلة بالدموع، وللأمانة والتاريخ وطالما ظلت الكلمة موقفًا، والحقّ رايةً لا تنكسر، سنظلّ نرفع الصوت في وجه القهر، متمسّكين بالحقّ والكرامة الإنسانية، مؤمنين بأنّ العدلَ هو الطريق الوحيد للسلام، وأنّ الفاشر – وسائر السودان – ستنهض من بين الرماد، لتُعلن أنّ الإنسان، مهما أُوذي، لا يُهزم ما دام متمسّكًا بإنسانيته، وأن الفاشر، برغم الجراح، ما زالت تُؤمن بأنّ الإنسانية أقوى من السلاح، وأنّ العدالة لا تُسكتها فوهة بندقية، في قلب الفاشر، المدينة التي احتضنت التاريخ ونسجت خيوط التعايش بين أهلها، حلّ ظلامٌ أثقلَ الصدور، بعد أن سقطت المدينة الوريفة الوادعة على يد قوات الدعم السريع في 26 – أكتوبر الماضي، إرتكبت القوات انتهاكات في حق بعض المدنيين، ونقولها بالصوت العالي أن هذه الإنتهاكات بحق المدنيين مرفوضة ومدانة ولا تليق بإنسانٍ ولا وطن، ونؤكد على مبدأنا الثابت الرافض لانتهاك كرامة المدنيين، ونشدد على ضرورة تقديم المتورطين في الإنتهاكات إلى العدالة.

لكنّ الفاشر في عهدها الجديد – رغم جراحها – ترفض الانكسار. فصوتها، وإن خفت تحت ركام الألم، لا يزال يصدح بالحقّ: لا شرعيّة لعنفٍ يُريق دم الأبرياء، ولا وطن يقوم على انتهاك الإنسان، نقف اليوم مع أهل الفاشر، ومع كل من نُكّل بهم، لنقول إنّ العدالة ليست شعارًا، بل وعدٌ لا يسقط بالتقادم، وإنّ السودان، بتاريخه ومروءته، لن يقبل أن يُبنى مستقبله على أنقاض الكرامة الإنسانية، فليعلم العالم أنّ القيم الإنسانية لا تُقهر، وأنّ الحرية لا تُؤخذ بالقوة، بل تُصان بالعدل. ستنهض الفاشر من جديد، لأنّ الأرض التي عرفت الظلم لا بدّ أن تُنبت الحقّ يومًا، مهما طال ليل الجور، ويعلم الجميع أن دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة رافقته انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، شملت عمليات قتل ونهب واعتداءات على المدنيين، وتصدرت هذه الأحداث نشرات الأخبار، وتداولتها المنصات المحلية والدولية باهتمام غير مسبوق، وحتى لا يزايد علينا أصحاب الأجندات الزائفة والإسطونات المشروخة، نؤكد أننا ضد جميع الإنتهاكات التي أرتكبت بحق المدنيين العزل في مدينة الفاشر.

منذ أن سقطت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، في قبضة قوات الدعم السريع، امتلأت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي بالصور والفيديوهات والبيانات المنددة بما جرى هناك: جرائم القتل الجماعي، والتعذيب، ونهب الممتلكات، وانتهاكات حقوق الإنسان التي وثّقتها منظمات محلية ودولية، لم يكن ذلك الاهتمام مدهشًا في حد ذاته، فالفاشر ليست مجرد مدينة؛ إنها رمز سياسي وتاريخي ومركز حضري كبير يختصر ذاكرة الإقليم وتوازناته القبلية والسياسية .. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا الفاشر فقط؟ ولماذا لم تحظَ “الكومة” أو “طُرّة” وهما مدينتان في ولاية شمال دارفور شهدتا فظائع مشابهة ارتكبتها القوات الحكومية، عبر طيران الجيش السوداني وحلفاءه من مليشيات القوات المشتركة – بالاهتمام ذاته، أو حتى بالإدانة الخجولة؟

تاريخيًا، تمثل الفاشر مركز الثقل السياسي والاجتماعي لدارفور، ومن يسيطر عليها يُنظر إليه كمن يملك مفتاح الإقليم بأكمله. لذلك، فإن سقوطها لم يكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل زلزالًا معنويًا أعاد إلى الأذهان سقوط المدن الكبرى في الحروب الأهلية الأخرى، الصور القادمة من الفاشر اختزلت مأساة دارفور المستمرة منذ أكثر من عقدين، وأعادت للأذهان مشاهد التطهير العرقي والنزوح الجماعي التي عرفها العالم في بدايات الألفية، والتي مارسها ذات الجيش السوداني المهزوم في الفاشر، ولأنها مركز إعلامي نسبيًا ومتصلة بشبكات دولية ومحلية، فقد وجدت المأسأة طريقها سريعًا إلى الشاشات والمنصات.

وعلى النقيض، فإن مدينتي “الكومة” و “طُرّة” لم تحظيا بالقدر نفسه من الأضواء، ففي هاتين المدينتين، شهد السكان قصفًا جويًا مكثفًا نفذه سلاح الطيران التابع للجيش السوداني، وفي مدينة “الكومة” فقط نفذ طيران الجيش السوداني أكثر من “140” غارة جوية أسقط فيها مئات البراميل المتفجرة والصواريخ شديدة الإنفجار، وقُتل في هذه الغارات أكثر من “800” مواطن من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وجرح المئات، وتم تدمير الممتلكات الخاصة والعامة في المدينة، وفي منطقة “طرة” أسقطت طائرة أنتنوف تابعة للجيش السوداني عدد “7” براميل متفجرة على المنطقة في يوم سوقها الإسبوعي، وفي نصف ساعة فقط قتلت الغارة الجوية أكثر من “400” مواطن من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وجرحت أكثر من “350” أخرين كان بعضهم جروحهم خطيرة.

ولم تقف إنتهاكات طيران الجيش السوداني عند مدينتي “الكومة” و “طرة” فقط، بل إمتدت لتشمل مدن “مليط وكبكابية والزرق وشنقل طوباي وبعض مدن وقرى ومعسكرات ولايات شمال دارفور الأخرى” التي قتل فيها طيران الجيش السوداني المئات من المواطنين العزل ودمر الممتلكات العامة والخاصة في تلك المناطق، ورغم فظاعة تلك الإنتهاكات، إلا أن هناك تقارير محدودة تحدثت عن سقوط عشرات المدنيين، وعمليات حرق للمنازل والأسواق، وجميع هذه الإنتهاكات لم تجد إدانة واضحة ومعلنة من قيادات القوات المشتركة “مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، وجبريل إبراهيم وزير المالية، وعبدالله يحي عضو مجلس السيادة، والوزير صلاح الولي وأخرين” وبقية قيادات القوات الذين كانوا يتحدثون بإسم شعب دارفور ومطالبه المشروعة، جميعهم لم يدينوا هذه الإنتهاكات الفظيعة، وكل تلك الأحداث مرّت بهم مرور الكرام، كأنها أحداث هامشية في حرب كبرى لا بواكي لها، والمفارقة المؤلمة أن ضحايا “الكومة” و “طُرّة” والمناطق الأخرى ينتمون إلى الفئات نفسها التي تُرفع صورهم اليوم في مظاهرات التضامن مع ضحايا الفاشر – مدنيون عُزّل دفعوا ثمن حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

وتُظهر هذه المفارقة عمق الانتقائية في الضمير الجمعي والإعلامي السوداني والدولي. فالإدانات تتكاثر حين يكون الفاعل قوات الدعم السريع، بينما يصمت كثيرون حين تكون الانتهاكات صادرة عن الجيش السوداني أو القوى المتحالفة معه مثل مليشيات القوات المشتركة، رغم أن الضحية واحدة والمعاناة واحدة، وإن هذا الكيل بمكيالين لا يضر فقط بالعدالة، بل ينسف إمكان بناء سردية وطنية متماسكة للحرب، تقوم على رفض الانتهاك أياً كان مرتكبه، لا على أساس الانتماء السياسي أو العسكري.

ولا يمكن الحديث عن سلام أو مصالحة في دارفور – أو في السودان كله – ما لم يُكسر هذا الصمت الانتقائي. فالتضامن الحقيقي لا يُقاس بموقع الجغرافيا، بل بمقدار الصدق في رفض الظلم. من يصرخ من أجل الفاشر عليه أن يسمع أيضًا أنين “الكومة” و “طُرّة” والمدن والمناطق الأخرى، ومن يندد بجرائم الدعم السريع لا يجوز له أن يبرر قصف طيران الجيش السوداني للمدنيين العزل أو صمت القيادات العسكرية عن انتهاكات حلفائها، إن العدالة لا تتجزأ، والإنسانية لا تُختصر في مدينة دون أخرى، الفاشر جرح مفتوح، نعم – لكنها ليست الجرح الوحيد. فهناك “كومة” تنزف، و”طُرّة” تحترق، ومدن ومناطق أخرى تتألم ، وسودان كامل يختبر ضميره.

هذا التفاوت في التفاعل يكشف عن خلل عميق في الوعي الجمعي والإعلامي تجاه ضحايا الحرب في السودان. إذ تُدان الانتهاكات بحدة عندما يرتكبها طرف معين – مثل قوات الدعم السريع – بينما يُغض الطرف عن تجاوزات الجيش والمليشيات الموالية له، رغم أن النتيجة واحدة: مدنيون يُقتلون وبلدات تُدمّر، إن هذا النمط من الانتقائية لا ينسجم مع مبادئ العدالة ولا يخدم هدف بناء سردية وطنية موحدة للحرب تقوم على إدانة الانتهاك بغض النظر عن هوية الفاعل.

تفرض المأساة السودانية الراهنة على الإعلام والمجتمع المدني تبني معيار واحد للحق والإنصاف. فالتركيز الانتقائي على مناطق بعينها يكرّس الانقسام، ويُضعف مصداقية الخطاب الإنساني الذي يجب أن يكون متوازنًا وشاملًا، إن التضامن مع ضحايا الفاشر واجب إنساني، لكن التغاضي عن معاناة “الكومة” و “طُرّة” والمدن والمناطق الأخرى يُحوّل هذا التضامن إلى موقف سياسي لا أخلاقي، وفي نهاية المطاف، تبقى الحقيقة البسيطة هي أن المدنيين في كل مناطق دارفور يدفعون الثمن نفسه، وأن العدالة لن تُكتب لها الحياة ما لم تشمل الجميع بلا استثناء.

نحن بحاجة إلى وقفة تأمل، لنعيد ترتيب أولوياتنا الأخلاقية ونواجه تناقضاتنا. فكما لا ينبغي أن يظلم أحد بسبب لونه أو عرقه أو دينه، فإننا لا ينبغي أن نتعامل مع أي قضية إنسانية بتساهل حينما تقتضي المصلحة، بل أن نكون صادقين مع أنفسنا أولًا، ومع الآخرين دائمًا، إن الوعي بالقيم الإنسانية والأخلاقية يجب أن يتجاوز حدود النفع الشخصي أو المصلحة الضيقة. فالحقيقة تبقى واحدة لا تتبدل بتقلبات الأيام، والعدالة لا تتجزأ بين غني وفقير، قوي وضعيف. لابد أن يكون لدينا معيارٌ ثابت، لا يتغير بتغير الظروف، لكي نعيد لتعاملاتنا الإنسانية مصداقيتها. فلا عدالة في التخاذل، ولا إنسانية في النفاق، ولا أخلاق في الازدواجية.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.